في لحظة تاريخية تُعيد إلى الأذهان أمجاد الريادة المصرية في مجالات الفكر والثقافة، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) فوز الدكتور خالد العناني، وزير السياحة والآثار الأسبق، بمنصب المدير العام للمنظمة للفترة من 2025 إلى 2029، بعد منافسة قوية مع مرشح الكونغو فيرمين ماتوكو، ليُصبح أول مصري يتولى هذا المنصب الرفيع منذ تأسيس المنظمة عام 1945.
الفوز الذي جاء بأغلبية ساحقة داخل المجلس التنفيذي، يُمثل انتصارًا جديدًا للدبلوماسية الثقافية المصرية، ويعكس تقدير المجتمع الدولي لمكانة مصر التاريخية كحاضنةٍ للتراث الإنساني ومهدٍ للحضارة.
ابن المتاحف.. وصانع الموكب الملكي
من يتأمل مسيرة الدكتور خالد العناني، سيجد نفسه أمام شخصية جمعت بين العلم والإدارة والرؤية الحضارية.
وُلد العناني عام 1971، وتخرّج في كلية الإرشاد السياحي بجامعة حلوان، قبل أن يحصل على الدكتوراه في علم المصريات من جامعة بول فاليري في فرنسا عام 2001.
تدرج في السلك الأكاديمي حتى أصبح أستاذًا لعلم المصريات بجامعة حلوان، وشارك في بعثات أثرية ومشروعات توثيق متحفية كبرى داخل مصر وخارجها.
لم يقتصر عطاؤه على القاعات الجامعية، بل كان أحد أبرز من أعادوا الحياة للمتاحف المصرية، حيث تولى إدارة المتحف القومي للحضارة المصرية وشارك في تأسيس المتحف المصري الكبير، كما قاد وزارة الآثار في فترة حاسمة، قبل أن يتولى وزارة السياحة والآثار الموحّدة عام 2019.
وخلال فترته الوزارية، قدّم العناني لمصر والعالم حدثًا فريدًا سيبقى محفورًا في الذاكرة الإنسانية:
موكب نقل المومياوات الملكية من المتحف المصري إلى متحف الحضارة، الذي شاهده أكثر من مليار شخص حول العالم، في مشهد جمع بين الفن والهوية والرسالة الثقافية.
الطريق إلى اليونسكو
منذ إعلان ترشحه رسميًا في أبريل 2023، خاض العناني حملة دبلوماسية هادئة ومدروسة، تنقلت بين العواصم، واجتمع مع قادة الثقافة والتعليم في عشرات الدول، مقدمًا رؤية متكاملة لتجديد دور اليونسكو في التعليم وحماية التراث وتعزيز الحوار الثقافي بين الشعوب، وقد حظي بدعم واسع من الدول العربية والأفريقية والأوروبية، بفضل تاريخه المهني وقدرته على التواصل بلغات عدة، ورؤيته التي تمزج بين الأصالة والتجديد.
وعند التصويت في المجلس التنفيذي، حصد العناني 55 صوتًا من أصل 58، مقابل صوتين فقط لمنافسه، لتعلن المنظمة اختيار القاهرة مركزًا عالميًا جديدًا لصوت الثقافة.
رؤية العناني: حضارة تصنع المستقبل
أكد الدكتور خالد العناني في أكثر من مناسبة أن الثقافة ليست ترفًا، بل حق من حقوق الإنسان، وأن التراث الإنساني يجب أن يُعامل كذاكرة جماعية للأمم، لا كرموز وطنية فحسب.
رؤيته لليونسكو تنطلق من ثلاثة محاور رئيسية: إعادة التوازن الجغرافي والثقافي داخل المنظمة، بحيث يكون للجنوب العالمي صوت أكبر في السياسات الدولية، و التحول الرقمي في التعليم والتراث، عبر رقمنة المتاحف والمناهج، وتوسيع فرص الوصول إلى المعرفة، وحماية التراث في مناطق الصراع، وتعزيز التعاون مع المؤسسات العسكرية والإنسانية لتأمين المواقع الأثرية.
هذه الرؤية تواكب تحديات العصر، من تغير المناخ إلى العولمة الثقافية، وتعيد لليونسكو دورها الأصلي كمنظمة تصنع الجسور لا الجدران.
مكاسب مصر والعالم
فوز العناني بهذا المنصب لا يُمثل مكسبًا شخصيًا، بل تحولًا استراتيجيًا في موقع مصر الدولي.
فمن المتوقع أن:
تستعيد القاهرة دورها في رسم السياسات الثقافية الدولية.
تحصل المؤسسات المصرية على دعم أكبر في برامج اليونسكو للتعليم وحماية التراث.
تُعزز العلاقات الثقافية مع أفريقيا والعالم العربي وأوروبا.
وتُفتح آفاق جديدة للتعاون العلمي والتبادل الثقافي.
على الجانب العالمي، يُنتظر أن يُحدث العناني نقلة في طريقة إدارة المنظمة، خاصة فيما يتعلق بالتكنولوجيا والتعليم والتراث، عبر شراكات مع شركات رقمية ومراكز بحثية لتوثيق وحماية الإرث الإنساني.
تاريخ يُكتب من جديد
إن فوز خالد العناني لا يُعد مجرد انتصار دبلوماسي، بل تتويجًا لمسيرة وطنٍ صنع أول حضارة على الأرض، ويواصل اليوم دوره في حماية ذاكرة البشرية.
من معابد الأقصر وأسوار منف، إلى قاعات اليونسكو في باريس، يمتد الخيط ذاته:
مصر التي علمت العالم الحروف والعمارة والروح، تكتب اليوم فصلًا جديدًا في سجل الإنسانية، بقيادة ابن من أبنائها الذين حملوا شغف التاريخ وإيمان المستقبل.