مع حلول ظهر الجمعة العاشر من أكتوبر وبمجرد دخول قرار وقف إطلاق النار حيز التنفيذ شهد قطاع غزة مشهدا استثنائيا لن تمحوه الذاكرة بسهولة: آلاف العائلات الفلسطينية التي نزحت خلال الأشهر الماضية من شمال القطاع ووسطه نحو الجنوب بدأت رحلة العودة عكسيا نحو الشمال نحو مدينة غزة التي لم تغب عن القلب يوما رغم كل ما أصابها من دمار !
يعودون إلى المجهول إلي احياء لم تعد موجودة إلا في الذاكرة..؛ إلي بيوت سويت بالأرض لكنهم يعودون.. يسيرون كأنهم يستعيدون حقا مسلوبا ويمشون الكيلومترات سيرا على الأقدام مثقلين بما تبقي من أمتعة وذكريات مدفوعين بغريزة البقاء والانتماء ..!
علي امتداد شارعي الرشيد وصلاح الدين تدفق طوفان بشري هائل يقدر بنصف مليون نازح عادوا إلى الشمال إلي مدينة دمرت لكن مازالت في وجدانهم حية ؛ يعودون وهم لا يعرفون من أين يأكلون ولكنهم يعودون.. اطفال ؛ نساء؛ كبار سن؛ مرضي؛ وشباب ..؛ لا يعرفون مصيرهم ولا ما ينتظرهم بعد هذه الرحلة الشاقة لكنهم ما إن سمعوا بقرار وقف إطلاق النار حتي حملوا ما تبقي من متاعهم وسلموا أمرهم لله وعادوا ..؛ عادوا يلملمون جراحهم ويحملون في قلوبهم أمنية واحدة: أن يبدأ الإعمار وأن تعود الحياة بعد أن ذاقوا مرارة النزوح بكل ما فيها من ألم وتشرد وفقد..؛ يعودون بعد أيام طويلة قاسية يحذوهم الأمل ولو بخيمة فوق ركام منازلهم المهدمة وأن تكون العودة بداية جديدة لا فصلا اخر من المعاناه رغم أن المدينة التي يعودون إليها لم تعد كما كانت فالمباني هناك مدمرة بالكامل تقريبا ومعظمها إما إنهار أو لم يعد صالحاً للسكن..؛لم يتبقي سوى اطلال واكوام من الركام ؛الشوارع نفسها التي كانت شرايين الحياة تحولت إلى مسارات ضيقة متعرجة بالكاد تعرف بعدما محتها القذائف الإسرائيلية المتواصلة طوال شهور الحرب ..
أما البنية التحتية فغائبة بالكامل:لا ماء ولا كهرباء ولا صرف صحي ولا خدمات عامة وحتي المستشفيات التي كانت ملاذا للجرحي والمصابين خرج معظمها عن الخدمة بعضها دمر تماما وبعضها الآخر يعمل جزءيا في ظروف إنسانية قاسية بلا وقود ولا أدوية ولا كهرباء حتي صارت محاولة إسعاف المصابين معركة أخري ضد الموت ورغم هذا الخراب الشامل اختارت غزة أن تعود إلى الحياة من جديد ؛ لم تكن عودة النازحين مجرد حركة بشرية نحو الشمال بل كانت فعلا من أفعال المقاومة الصامتة .. مقاومة تعلن أن الفلسطيني لا يهزم حتي لو هدمت مدينته فوق رأسه.
العودة هنا ليست إلي المكان فقط بل إلي الهوية هي تأكيد أن الإنتماء للأرض أقوي من كل أدوات الحرب وأن الصمود في وجه الدمار هو الشكل الأسمي من أشكال المقاومة ففي كل خطوة يخطوها النازح نحو بيته المهدم هناك رسالة للعالم: أن غزة رغم كل ما حاق بها من حصار وقصف وتجويع مازالت تعيد بناء نفسها من تحت الركام ؛ أن الشعب الفلسطيني لا يطلب المستحيل بل يتمسك بحقه الطبيعي في الحياة فوق أرضه مهما كانت كلفة البقاء ..!
وهكذا تحول مشهد العودة فى العاشر من أكتوبر إلي لحظة تاريخية تختصر الحكاية الفلسطينية بأكملها:
يهجرون قسراً...فيعودون
يدمر وطنهم..فيعيدون بناءه بالاصرار
تمحي المدن من الخريطة ..فترسم من جديد بخطوات العائدين
أن العودة إلى غزة هي إعلان اخر أن الهوية لا تقصف وأن الشعب الذي يعود إلى الرماد لا يمكن أن يمحي من الوجود
لقد عادوا على أمل الاعمار وعودة الحياة ولذلك لا يعنيهم الآن سوي تنفيذ مرحلة الاغاثة العاجلة ويعولون كثيرا علي المنظمات الإنسانية التي طالما وقفت بجانبهم في أشد اللحظات قسوة..؛ هذه العودة وحدها كانت صفعة لحكومة نتنياهو المتطرفة التي بنت دعايتها طوال الحرب على خطاب التهجير القسري والاستيلاء على غزة وظنت أن الفلسطينيين لن يعودوا أبدا..؛لكن مشهد الآلاف من العائدين نسف هذا الوهم وأثبت أن كل رهانات الإحتلال على (الهيمنة والانتصار) كانت مجرد سراب .
وربما تكون خطة ترامب لوقف الحرب قد حملت ظلما للشعب الفلسطيني في بعض جوانبها أو على الأقل ليست الخطة المثالية لإنهاء المأساة لكنها تمثل الخيار المتاح لوقف نزيف الدم والتجويع والإبادة والتهجير ومن هنا تصبح أولوية هذه المرحلة هي تحصين الاتفاق من أي خروقات محتملة فالاتفاق أشبه بالرمال المتحركة لأنه دقيق يحتاج إلى متابعة حثيثة ويتطلب يقظة مستمرة وتنسيق متواصل.
وهنا يأتي الدور المصري الحاسم فمصر ليست مجرد وسيط بل طرف معنى بكل الترتيبات الأمنية والسياسية التي ستلي وقف إطلاق النار ويعول على القاهرة إلي جانب باقي الوسطاء أن تحول هذه الخطة إلي واقع ملموس وأن تمنع نتنياهو من تفجير الاتفاق أو عرقلة مسار الإعمار والإغاثة فالعودة التي بدأت من تحت الركام لا ينبغي أن تتوقف بل يجب أن تكون الخطوة الأولى نحو سلام حقيقي يكرس الصمود لا الاستسلام ويعيد إلي غزة حقها في الحياة.. بعد أن دفعت الثمن الأكبر .