تتجه أنظار العالم، اليوم السبت، نحو القاهرة حيث يُفتتح رسميًا المتحف المصري الكبير، أحد أضخم المشاريع الثقافية في التاريخ الحديث، وأكبر صرح أثري في القرن الحادي والعشرين. يقف المتحف شامخًا عند أقدام الأهرامات، ليجسد رحلة مصر الطويلة في الحفاظ على تراثها وتاريخها العريق، وليبعث برسالة قوية مفادها أن الحضارة المصرية لا تزال حية تنبض بروح الإبداع والعظمة.
لم يكن هذا المشروع مجرد بناء حجري ضخم، بل هو حلم وطني استمر لأكثر من عقدين، بدأ في عام 2002 خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، واستمر حتى اليوم ليصبح واقعًا ملموسًا يجمع بين عبق الماضي وروح الحداثة. وبين جدرانه، تقف تماثيل وتوابيت ومجوهرات تحكي قصص ملوك وملكات، صنعوا المجد وتركوا بصمتهم على وجه التاريخ.
الصرح الأعظم.. هندسة تُحاكي الخلود
من اللحظة الأولى التي تطأ فيها قدم الزائر أرض المتحف، يشعر بأنه أمام معجزة معمارية بحق. فقد صممت شركة "هينغان بنغ" الإيرلندية الواجهة الزجاجية والحجرية للمتحف على هيئة الهرم الرابع، في انسجام تام مع أهرامات الجيزة الثلاثة.
يمتد المتحف على مساحة 50 ألف متر مربع، ليضم نحو 100 ألف قطعة أثرية تمثل 30 سلالة فرعونية. نصف هذه الكنوز معروض أمام الزوار في قاعات مذهلة التصميم، بينما يُحفظ النصف الآخر في مخازن مجهزة بأحدث التقنيات للحفاظ على التراث الإنساني للأجيال القادمة.
وتطل الواجهة البانورامية للمتحف مباشرة على الأهرامات، ما يمنح الزائر مشهدًا لا يُنسى، يجمع بين روعة الماضي وعظمة الحاضر في لوحة بصرية لا مثيل لها.
رمسيس الثاني.. الحارس الأبدي للمتحف
في بهو المتحف الرئيسي، يقف تمثال الملك رمسيس الثاني شامخًا بارتفاع 11 مترًا ووزن يبلغ 83 طنًا، وكأنه يستقبل الزوار بابتسامة فخر ووقار. يُعد رمسيس الثاني من أعظم ملوك الفراعنة الذين حكموا مصر بين عامي 1279 و1213 قبل الميلاد، ويُرمز له بالبطولة والعظمة في التاريخ المصري القديم.
مر التمثال برحلة طويلة قبل أن يجد مكانه الأبدي داخل المتحف. فمنذ اكتشافه عام 1820، تنقل بين عدة مواقع، من بينها محطة سكك حديد القاهرة، حتى نُقل في موكب مهيب إلى موقعه الحالي بجوار الأهرامات، ليكون رمزًا لاستقبال الزوار من مختلف أنحاء العالم.
توت عنخ آمون.. الفرعون الذهبي يتألق من جديد
واحدة من أكثر القاعات انتظارًا في المتحف هي قاعة الملك توت عنخ آمون، التي تضم المجموعة الكاملة لمقتنياته ما يزيد عن خمسة آلاف قطعة أثرية تعرض لأول مرة بشكل متكامل على مساحة 7500 متر مربع.
يُعد القناع الذهبي المرصع بالأحجار الكريمة أبرز ما يميز المجموعة، إلى جانب التابوت الحجري المصنوع من الكوارتز الأحمر، الذي يحتوي على ثلاثة توابيت متداخلة، أصغرها من الذهب الخالص يزن 110 كيلوغرامات.
هذا العرض الفريد لا يقدم مجرد قطع أثرية، بل يحكي قصة ملك شاب رحل عن الدنيا في عمر التاسعة عشرة، تاركًا وراءه أسرارًا ما زالت تبهر العلماء والباحثين حتى اليوم.
مركب الشمس.. رحلة نحو الخلود
في مبنى منفصل ضمن المتحف، تمتد قاعة ضخمة بمساحة 4000 متر مربع تضم مركب الشمس الخاص بالملك خوفو، والذي يُعد أقدم وأكبر قطعة خشبية أثرية في العالم.
المركب، المصنوع من خشب الأرز منذ نحو 4600 عام، يبلغ طوله 43.5 مترًا، وقد عُثر عليه عام 1954 قرب الهرم الأكبر. يعرض المتحف أيضًا عمليات ترميم مركب شمسي ثانٍ اكتُشف عام 1987، يمكن للزوار مشاهدتها عبر جدار زجاجي شفاف، مما يتيح لهم تجربة تفاعلية نادرة تجمع بين العلم والتاريخ.
واجهة بانورامية تحكي التاريخ
صُمم المتحف بطريقة فريدة تجمع بين العمارة الحديثة والروح المصرية القديمة، حيث يقود درج ضخم مزين بتماثيل فرعونية ضخمة إلى قاعات عرض تحكي قصة مصر عبر العصور.
في الطابق العلوي، تُعرض مقتنيات تمثل أكثر من خمسة آلاف عام من الحضارة المصرية، تمتد من عصور ما قبل التاريخ وحتى العصر اليوناني الروماني، داخل 12 قاعة رئيسية مجهزة بأحدث تقنيات العرض والإضاءة والتفاعل الرقمي.
كما يحتوي المتحف على مراكز بحثية ومختبرات ترميم ومكتبات ومناطق تسوق ومطاعم، ليصبح تجربة ثقافية وسياحية متكاملة، وليس مجرد متحف تقليدي.
زاهي حواس.. المتحف رسالة من مصر إلى العالم
وفي هذا السياق، وصف عالم الآثار العالمي الدكتور زاهي حواس الحدث بأنه «لحظة فخر لكل مصري»، مؤكدًا أن المتحف الجديد يمثل علامة فارقة في مسيرة صون التراث الإنساني وتعزيز مكانة مصر السياحية عالميًا.
زاهي حواس.. المتحف رسالة حضارية من مصر للعالم
أكد الدكتور زاهي حواس أن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى معماري ضخم، بل هو «رسالة من مصر الحديثة إلى العالم»، تبرز من خلالها قدرتها على الجمع بين عراقة الماضي وروح الحاضر. وقال إن الافتتاح المرتقب يبعث برسائل عديدة، أهمها أن مصر تصون آثارها وتعتز بمجد أجدادها العظام.
وأشار حواس إلى أن أكثر من 500 محطة تلفزيونية عالمية ستغطي فعاليات الافتتاح، في ما وصفه بأكبر حملة ترويجية مجانية لمصر في تاريخها الحديث، لافتًا إلى أن تلك التغطية الواسعة تمثل مكسبًا إعلاميًا وسياحيًا وسياسيًا كبيرًا.
قاعة الملك الذهبي.. أيقونة المتحف
أبرز ما يترقبه العالم، بحسب حواس، هو افتتاح قاعة الملك توت عنخ آمون، التي ستعرض المجموعة الكاملة للفرعون الذهبي المكونة من خمسة آلاف قطعة أثرية على مساحة تبلغ 7,500 متر مربع. وأوضح أن هذا العرض الفريد من نوعه سيجسد عظمة الحضارة المصرية وخلودها عبر العصور، ليمنح الزائر تجربة استثنائية تجمع بين الدهشة والمعرفة.
وأضاف أن هذه القاعة ستكون وجهة عالمية لكل من يهتم بالتاريخ والآثار، مؤكداً أن حضور أكثر من 600 شخصية دولية بارزة للحدث سيعزز من مكانة مصر كعاصمة للثقافة والسياحة التاريخية في العالم.
نهضة سياحية واقتصادية غير مسبوقة
تحدث حواس عن المكاسب الاقتصادية الهائلة التي ستجنيها مصر عقب الافتتاح، مؤكدًا أن المتحف سيسهم في إطلاق نهضة سياحية غير مسبوقة. وقال إن « مصر بعد 4 نوفمبر لن تجد غرفة فندقية شاغرة»، في إشارة إلى الزيادة المتوقعة في أعداد الزوار من مختلف دول العالم.
وأضاف أن السياحة تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي، وأن المتحف سيجذب استثمارات ضخمة وفرص عمل جديدة، فضلًا عن العوائد غير المباشرة التي ستنعكس على المجتمع المصري بأكمله.
مصر... بلد السلام والحضارة
واختتم حواس حديثه قائلاً إن العالم كله سيرى في هذا الافتتاح أن مصر هي بلد السلام، وصاحبة الحضارة التي قدمت للعالم أسمى قيم المجد والتقدم. وأضاف: "المتحف المصري الكبير ليس مجرد صرح أثري، بل هو وعي جديد يتشكل داخل كل مصري، فاليوم كل الناس تتحدث عن المتحف وتفخر بتاريخها، وهذه في حد ذاتها أعظم مكاسب الافتتاح."
مجد يتجدد عبر الزمن
وهكذا، تقف مصر اليوم على أعتاب فصل جديد من فصول مجدها الخالد. المتحف المصري الكبير ليس مجرد افتتاح لمبنى، بل هو ولادة جديدة لحضارة ما زالت تُدهش العالم. إنه وعد بالاستمرار، ورسالة من أرض الكنانة تقول:
"هنا مصر... مهد الحضارات، وصاحبة المجد الذي لا يزول، وحارسة التاريخ الإنساني إلى الأبد."