لا يزال حادث مصرع رئيس أركان الجيش الليبي، الفريق أول محمد علي الحداد، وأربعة من مرافقيه، في تحطم طائرتهم قرب العاصمة التركية أنقرة، يثير حالة واسعة من الجدل والتساؤلات داخل ليبيا وخارجها، في ظل الغموض الذي يحيط بأسباب الحادث وتوقيته وسياقه السياسي والعسكري، خاصة أن الواقعة جاءت في لحظة إقليمية بالغة الحساسية تشهد تحركات متشابكة في ملفات ليبيا وشرق المتوسط وغزة.
الحادث، الذي وقع أثناء عودة الوفد العسكري الليبي من زيارة رسمية إلى تركيا، شكّل صدمة قوية للمؤسسة العسكرية الليبية، لما يمثله الحداد من ثقل ودور محوري في مسار توحيد الجيش، ولما تحمله زيارته لأنقرة من أبعاد سياسية وعسكرية، في ظل العلاقات المعقدة بين البلدين والتجاذبات الإقليمية المحيطة بالملف الليبي.

تفاصيل الرحلة الأخيرة
وفق الرواية الرسمية التركية، أقلعت الطائرة من مطار أنقرة في الساعة 17:10 بتوقيت غرينتش، متجهة إلى العاصمة الليبية طرابلس، قبل أن ينقطع الاتصال بها بعد نحو 37 دقيقة من الإقلاع.
وبعد عمليات بحث مكثفة، عثرت فرق الدرك التركية على حطام الطائرة وجثامين الضحايا على بعد كيلومترين من قرية كسيك كاواك التابعة لقضاء هايمانا جنوب غربي أنقرة.
وأكد وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا أن جميع ركاب الطائرة، وعددهم ثمانية أشخاص، لقوا حتفهم في الحادث، مشيرًا إلى أن السلطات تمكنت من العثور على الصندوق الأسود ومسجل الصوت، وبدأت الجهات المختصة فحصهما لكشف الملابسات الفنية للحادث.
من هم ضحايا التحطم؟
أسفر الحادث عن مصرع رئيس أركان الجيش الليبي الفريق أول محمد علي الحداد، ومستشاره محمد العصاوي دياب، ورئيس أركان القوات البرية الفريق ركن الفيتوري غريبيل، ومدير جهاز التصنيع العسكري العميد محمود القطيوي، إلى جانب المصور بمكتب إعلام رئاسة الأركان محمد عمر أحمد محجوب. وأكدت السلطات التركية أن باقي ركاب الطائرة، وهم من الطاقم والمرافقين، لقوا المصير نفسه.
الروايات الأولية والفرضيات
تشير الروايات الرسمية الأولية إلى أن الطائرة أطلقت نداء استغاثة بعد نحو 35 دقيقة من الإقلاع، بسبب عطل كهربائي مفاجئ، ما دفع الطاقم إلى طلب الهبوط الاضطراري، قبل أن ينقطع الاتصال بها نهائيًا.
وقال مسؤولون أتراك إن انفجارًا قويًا سُمع عقب سقوط الطائرة، مرجحين أن يكون ناتجًا عن اشتعال الوقود عند الارتطام.
وفي هذا السياق، أكد وزير الدولة الليبي للاتصال وليد اللافي أن الطائرة التي تحطمت لم تكن ليبية، وإنما مستأجرة، وهو ما يفتح بدوره تساؤلات إضافية حول إجراءات السلامة الفنية، ومسؤوليات التشغيل والصيانة.
التحقيقات التركية
أعلنت الحكومة التركية فتح تحقيق شامل في الحادث، حيث أوضح وزير العدل يلماز طونش أن نيابة أنقرة باشرت التحقيق فورًا، وجرى تكليف أربعة مدعين عامين بالملف تحت إشراف نائب رئيس النيابة العامة، مع التأكيد على فحص جميع الفرضيات المحتملة، سواء كانت فنية أو تشغيلية.
ويُنظر إلى نتائج تحليل الصندوق الأسود باعتبارها العامل الحاسم في تحديد السبب النهائي لسقوط الطائرة، وسط ترقب ليبي وإقليمي واسع لما ستسفر عنه التحقيقات.
ردود الفعل الليبية والدولية
في ليبيا، أعلنت حكومة الوحدة الوطنية الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام، وتنكيس الأعلام في جميع المؤسسات الرسمية، وتعليق المظاهر الاحتفالية، ووصفت الحادث بالخسارة الكبيرة للمؤسسة العسكرية والدولة الليبية. كما أرسلت وفدًا رسميًا إلى أنقرة لمتابعة التحقيقات والوقوف على تفاصيل الحادث.
ونعى المجلس الأعلى للدولة ورئاسة الأركان العامة الفريق الحداد ومرافقيه، فيما قدّم اللواء المتقاعد خليفة حفتر تعازيه إلى ضباط ومنتسبي القوات المسلحة.
وعلى الصعيد الدولي، قدمت سوريا تعازيها الرسمية، كما أعربت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا عن حزنها العميق، ووصفت الحداد بأنه أحد أبرز المدافعين عن توحيد المؤسسات العسكرية وتحقيق الاستقرار.
من هو محمد علي الحداد؟
وُلد محمد علي الحداد عام 1966 في مدينة مصراتة، والتحق بالكلية العسكرية في طرابلس عام 1985.
برز اسمه بقوة بعد عام 2011، خاصة خلال التصدي للهجوم على العاصمة طرابلس عام 2019. وفي عام 2020، عُيّن رئيسًا للأركان العامة للجيش الليبي، ولعب دورًا رئيسيًا في مسار توحيد المؤسسة العسكرية، من خلال مشاركته الفاعلة في أعمال اللجنة العسكرية المشتركة 5+5، برعاية الأمم المتحدة.
كما نسج الحداد شبكة علاقات عسكرية دولية واسعة، شملت تركيا وإيطاليا والولايات المتحدة، وشارك في اتفاقيات وبرامج تدريب وتنسيق عسكري، ما جعله أحد أبرز الوجوه العسكرية المؤثرة في ليبيا خلال السنوات الأخيرة.
ورغم الروايات الرسمية، لا تزال أسئلة كثيرة مطروحة بشأن الحادث، تتعلق بتفاصيل العطل الفني، وطبيعة الرحلة، وتوقيت السقوط، في انتظار ما ستكشفه نتائج التحقيق النهائي.
وبينما تركز السلطات التركية حتى الآن على فرضية الخلل التقني، يبقى الحادث محاطًا بحساسية سياسية وعسكرية كبيرة، نظرًا لمكانة الضحايا ودورهم في المشهد الليبي.
وبرحيل محمد علي الحداد، تفقد ليبيا قائدًا عسكريًا ارتبط اسمه بمحاولات رأب الصدع داخل الجيش وبناء مؤسسة عسكرية موحدة، في مرحلة لا تزال البلاد فيها بأمسّ الحاجة إلى الاستقرار والتوافق، وسط تحديات داخلية وإقليمية متشابكة.