قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

مكتبة الأسرة.. مشروع فاروق حسني الذي غيّر وجه الثقافة المصرية

فاروق حسني
فاروق حسني

في زمن لم تكن فيه الثقافة متاحة للجميع، حيث كانت الكتب نادرة وغالية، ظهر مشروع غيّر وجه القراءة في مصر: “مكتبة الأسرة”، هذا المشروع الذي أصبح ظاهرة شعبية، لم يكن مجرد فكرة لتوزيع الكتب، بل كان جسرًا بين الدولة والمواطن، ورؤية ثقافية ترتكز على إتاحة المعرفة بأسلوب ذكي وبأسعار معقولة، ليصبح لكل أسرة مكتبتها الخاصة.
ومن خلال سلسلة "سنوات الفن والثقافة"، يحكي الفنان والمثقف الكبير فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، حكاية ولادة هذا المشروع الذي أصبح علامة فارقة في تاريخ الثقافة المصرية.

فكرة مكتبة الأسرة

القصة بدأت أثناء جولة قام بها فاروق حسني في أحد الأماكن التابعة لوزارة الثقافة، حين كان يفكر في استغلال مساحات الوزارة في مشروعات ثقافية جديدة. هناك، اكتشف كميات هائلة من الكتب القديمة والمرتجعات، مخزنة بلا استغلال، وقد تكون هذه الكتب ضائعة لولا رؤيته الثاقبة.
حينها خطر له أن يُحوّل هذا الكم الهائل من الكتب إلى فرصة للقراء، فاقترح بيعها بأسعار زهيدة، في مجموعات تتناسب مع أفراد الأسرة، ضمن معرض الكتاب. الفكرة لم تكن مجرد تجارة للكتب، بل كانت رؤية لتعزيز عادة القراءة، ونشر الثقافة بين المواطنين، بطريقة عملية وذكية.

دور الدعم المؤسسي

مع نجاح الفكرة الأولية، تولت السيدة سوزان مبارك دعم المشروع بشكل رسمي، مما أتاح له الانطلاق على نطاق أوسع، ليشمل مختلف المحافظات ويصل إلى شريحة أكبر من المواطنين. هذا الدعم لم يقتصر على التمويل فقط، بل شمل تنظيم المبادرة لتصبح ظاهرة معروفة لكل المصريين، ومن ثم خلق عادة ثقافية لم تكن موجودة من قبل: تكوين مكتبات خاصة داخل المنازل، لكل أسرة.

كيف عمل المشروع؟

تعتمد مكتبة الأسرة على تقديم مجموعات كتب بأسعار رمزية جدًا، تتنوع بين الرواية، الفلسفة، الأدب، العلوم، والتاريخ. كل مجموعة كانت تضم كتبًا منتقاة بعناية، لتناسب جميع الأعمار والمستويات التعليمية، وتغطي مجالات متعددة من المعرفة.
المشروع لم يكن مجرد بيع للكتب، بل دعوة للقراءة والاطلاع، وإشراك الأسر المصرية في تجربة ثقافية جديدة. وعبر تنظيمه في معرض الكتاب، استطاع المشروع الوصول مباشرة إلى الجمهور، وخلق رابط بين الدولة والثقافة والمواطن.

تأثير المشروع على المجتمع

كان للمشروع أثر اجتماعي وثقافي كبير. فقد أصبح من المعتاد أن يزور كل أسرة معرض الكتاب، لاختيار مجموعتها الخاصة، وتكوين مكتبتها المنزلية. وبذلك، غيّر المشروع صورة الثقافة من كونها حكرًا على المثقفين أو الطلاب، إلى متاحة للجميع.
كما ساهم المشروع في نشر عادة القراءة بين الأطفال والشباب، وتحفيز الأسر على اقتناء الكتب بشكل دوري، ما ساعد في بناء وعي ثقافي جماهيري لم يكن موجودًا من قبل.

ردود الفعل الشعبية

كان المصريون يستقبلون المشروع بحماس، ويعتبرونه فرصة نادرة للحصول على كتب بأسعار منخفضة، مع ضمان جودة المحتوى. وسرعان ما أصبحت مكتبة الأسرة علامة مألوفة في كل بيت، وكثيرون يفتخرون بمجموعاتهم الخاصة.
وعلى المستوى الثقافي، ساعد المشروع في تعزيز التواصل بين المثقفين والجمهور العام، وخلق قاعدة قارئة واسعة تدعم صناعة الكتاب، وتفتح المجال لمنتجات ثقافية متنوعة في السوق المحلي.

المكانة التاريخية للمشروع

بالنسبة للفنان فاروق حسني، كانت مكتبة الأسرة واحدة من أهم مشروعاته، لأنها جمعت بين الفكر والثقافة والتنظيم الاجتماعي، وأثبتت أن القراءة يمكن أن تتحول من عادة محدودة إلى ظاهرة شعبية عامة.
هذا المشروع وضع مصر على خريطة الثقافة الجماهيرية، وأصبح نموذجًا يحتذى به في إتاحة المعرفة، ليس فقط للطبقات المثقفة، بل لكل المصريين.

الأبعاد الفنية والتربوية

من الناحية التربوية، أعطت مكتبة الأسرة فرصة للطلاب والأطفال لاختيار كتبهم بأنفسهم، والتعرف على مجالات مختلفة، مما ساعد على تنمية مهارات النقد والاطلاع.
أما من الناحية الفنية، فقد أصبح المشروع منصة للتعريف بالكتاب المحلي، والروائيين المصريين، والتاريخ الثقافي للبلاد، إذ وفّر لهم مساحة للتواصل مع الجمهور بشكل مباشر.

استدامة المشروع والتحديات

بالرغم من نجاح المشروع، واجه تحديات، خاصة مع التغيرات الاقتصادية وزيادة تكلفة الكتب. ومع ذلك، بقيت مكتبة الأسرة علامة ثقافية بارزة، واستمر المصريون في الاقبال عليها، مما يعكس أهمية الفكرة في الحفاظ على عادة القراءة.
كما أن نجاح المشروع أظهر أن الدعم الحكومي والمؤسسي يمكن أن يحدث فرقًا حقيقيًا في الثقافة الجماهيرية، حينما يتبنى فكرة ذكية وقابلة للتطبيق على أرض الواقع.

مشروع مكتبة الأسرة ليس مجرد فكرة لبيع الكتب، بل هو تجربة ثقافية واجتماعية ساهمت في تغيير نظرة المصريين للثقافة والقراءة.
من فكرة بسيطة في مخزن للكتب القديمة، إلى ظاهرة شعبية أضحت جزءًا من حياة الأسر المصرية، يظهر المشروع كيف يمكن للإبداع والوعي الثقافي أن يتحول إلى إرث مستدام، يترك أثرًا طويل الأمد في المجتمع.
وبفضل هذا المشروع، أصبح لكل أسرة مكتبتها الخاصة، ولم تعد الثقافة حكراً على فئة محددة، بل حق لكل مواطن يرغب في الاطلاع والتعلم.