يموت راهبًا.. يقوم أسقفاً.. يحكم بطريركاً

مما لا شك فيه ولا يختلف فيه اثنان عظمة الكنيسة الأرثوذكسية وأمومتها لكل طوائف الأيمان المسيحي والعقيدة التي تجسد كحياة في أزمنة كثيرة منذ نشأت الكنيسة مع الرسل , ولأننا نؤمن أن المسيحية حياة مع قول السيد المسيح : ” قال له يسوع أنا هو الطريق و الحق و الحياة ليس احد يأتي إلى الآب إلا بي " ولثقتنا أن المسيحية ليست ديانة وطقوس بل الإنجيل كله وبشارته تخبرنا ذلك , عن الإنسان وخلقته وسقوطه ثم ترتيت الخلاص وخدمته من خلال الكلمة المتجسدة واليهودية بعهدها القديم لم تكن سوى تمهيد لقدوم ذاك المخلص , وجاءت كنيستنا الأرثوذكسية تنقل لنا بالبث المباشر في كل قداس قصة الخلاص , ومع رائحة البخور تشعر وكأنك في السماء في طقس مرتب بطريقة تفوق الخيال , ولذلك كل قبطي يعتز بكنيسته جدا ويفتخر بنسبه إليها , وعندما نتحدث عن أمور بشرية وترتيبات رئاسية بها فهذا ينفصل تماما عن كونها مقدسة ونتمنى أن تعود جامعة رسولية كما كانت , عوض انقسامها المعيب .
قصدت أن أبدأ كلامي بهذا الوصف حتى لا أصنف مهاجماً للكنيسة ولأن الكنيسة بها الملايين مما يخضعون ويتباركون ولو وجد آلاف المهاجمين , أوالمنتقدين فلن يؤثروا شيئاً , وفى ذات الوقت لا يفرح مسيحي وهو ينتقد الكنيسة - البشر الذين يحكمون ويتحكمون - التي تعيش هذه الأيام حزناً عميقاً لانتقال مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث الذي بكاه العالم كله في المشرق والمغرب , ويستحق لكونه فيلسوفاً وشاعراً وقائداً وزعيماً وطنياً حفر اسمه في ذاكرة التاريخ لأنه أحب بلاده من كل قلبه وشهد كل المصريين بذلك , وكان صاحب كاريزما ويحب ويقود الملايين , مما يتعذر على أي شخص سوف يحل مكانه أن يكون كذلك لأنه كان متفرداً , ومنذ نياحته ورجالات الكنيسة في حيرة كما هو الحال بالضبط على مستوى البلاد التي تتخبط بدون قائد حكيم , ولا يعلم أحد إلى أي وأين سوف تصل , كل هذه الأمور يعلمها حتى الأطفال ولكن المريب في الأمر هو ظهور بعض الطموحات والرغبة في كرسي البطريرك حتى قبل نياحته .
الكنيسة الأرثوذكسية هي التي قادت وشجعت منذ نشأت الرهبنة في القرن الثالث , وصدرت هذا الفكر للعالم كله وانتشرت الرهبنة في كل بقاع الأرض وأخذتها حتى البوذية والهندوسية لما فيها من حياة الفضيلة والنصرة على الذات والشهوات بل وجميعنا كان يتوق للحياة الجميلة هذه , واستمرت كذلك من أيام الأنبا انطونيوس أب الرهبان حتى اليوم وعلى الرغم من أن الكنيسة وأول بطاركتها إنيانوس الذي سامه القديس مرقس وكلنا نعرف قصته الشهيرة التي بدأت بتمزق حذاء مرقس الرسول عندما جاء ليبشر فى بلادنا , وفيما يصلحه الأسكافى إنيانوس نفذ المخراز بيده فصرخ : يا الله الواحد ومنها بشره القديس وأمن وبيته وسامه مارمرقس بطريركا على الإسكندرية , وكانت الوصية بالكتاب المقدس في الرسالة إلى تيموثاوس الأولى الإصحاح الثالث 2 -7 " فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم بعل إمراة واحدة صاحيا عاقلا محتشما مضيفا للغرباء صالحا للتعليم غير مدمن الخمر و لا ضراب و لا طامع بالربح القبيح , بل حليما غير مخاصم و لا محب للمال يدبر بيته حسنا له أولاد في الخضوع بكل وقار . و إنما أن كان احد لا يعرف أن يدبر بيته فكيف يعتني بكنيسة الله غير حديث الإيمان لئلا يتصلف فيسقط في دينونة إبليس , و يجب أيضا أن تكون له شهادة حسنة من الذين هم من خارج لئلا يسقط في تعيير و فخ إبليس "
ومع ازدهار الرهبنة تغيرالوضع وسيطر الرهبان على قيادة الكنيسة وبطل هذا التقليد أن يكون البطريرك متزوجاً ولا حتى الأسقف وقد يتعالى البعض عن الكهنة المتزوجين أحيانا , وذلك لأنهم بتولون وكلنا نعرف قصة القديس مقار عندما طلب من الرب أن يعرفه من يحبه مثله في العالم , فعرفه الرب قصة السيدتين المتزوجتين يحباه مثله , وخجل أبو مقار من نفسه , أي أن العبرة ليست فيمن راهب ولا متزوج بقدر الحب لله ولم يسمع عن التلاميذ أنهم جميعا كانوا متبتلين , ولما التعالي ومن تجلوا على جبل الطور كانا موسى وإيليا , ولم يشترط في التجلي البتولين فقط , ولست أريد أن أطيل في هذا الحديث الذي قد يجده البعض من عاشقي الرهبان تجديفاً , ولكن فقط أردت أن أوضح أن هناك فرقاً بين الكنيسة ومن يحكمها , فأصل الراهب ذهب لديره لكي يموت عن العالم , فإذا به نراه يبعث حياً ويقام أسقفا ثم يتمجد ويرتفع ليحكم بطريركاً , وينسى في هذا الخضم الكثير من الرهبان والأساقفة أنفسهم فيرشحون أو يرشحون لمنصب البابا .
في كل صباح نرى الكثير ممن يشتهون الكرسي , وأتحفنا القرار بترشح الأساقفة للمنصب وهو من غير المعروف ولا المألوف في تاريخ الكنيسة حيث يعتبرونه متزوجاً من إيبارشيته وشعبه زيجة واحدة ولا يجب أن يعددها , ولكن فيما العجب وقد يعبثون بقرارات وترتيبات بشرية خالصة , ومنا من يقدس القرعة في الوقت الذي ينصح فيه آباء الكنيسة الشاب أو الشابة في الزواج من وضع أوراق على المذبح بها أسماء الفتيات للزواج , ومهما يكن من أمر فالتهافت على كرسي البطريرك أمر مخزي جداً , كما أنه لن يأتي آخر يستطيع أن يختزل الأقباط في شخصه أو يحبوه لدرجة العبادة وليوفر كل واحد نفسه ويهرب - كما كان قديماً - من الأتعاب حيث الأيام شريرة وستكون اسود من ملابسهم .