لا شك أن لغة الأمة أهم رمز لهويتها وجذورها بل ولقوتها وسيادتها أيضًا، وعند تتبع تاريخ العلاقة بين اللغة وقوة الأمم سنجد مئات الأمثلة التي مثلت فيها اللغة العمود الفقري لحضارات نهضت وسادت محيطها الإقليمي والعالمي.
اللغة هوية... وأداة غزو القوى الكبرى
وفي هذا السياق، يتجلى مدى حرص بريطانيا في أوج مجدها وقوتها بالقرن الثامن والتاسع عشر نشر لغتها الإنجليزية التي مثلت أحد آليات فرض سيادتها على الأمم المستعمرة التي تبعد عن الأراضي البريطانية آلاف الأميال البحرية مثل الهند وشرق أفريقيا، بل كانت اللغة الإنجليزية أحد الأدوات الاستراتيجية لدى حكومات لندن لتغيير هويات الأمم المستعمرة لقرون وتحويلها لهوية الغزاة لأن اللغة هي الوجه الآخر لهوية الأمم، ولا تزال دول الكومنويلث البريطاني البالغ عددهم ثلاثة وخمسين دولة في رابطة مثمرة ببريطانيا بسبب اللغة ولاسيما المصالح الاقتصادية أيضًا رغم أن بعضهم لا يعترف بالإنجليزية كلغة رسمية أولى أو حتى ثانية مثل باكستان التي أعلنت لغة الأردو لغة رسمية وحيدة والتخلي عن الانجليزية عام 2015 كلغة رسمية في البلاد.
وينافس بريطانيا كلًا من روسيا وفرنسا على سبيل المثال لا الحصر، حيث حرصت موسكو على فرض اللغة الروسية على شعوب أسيا الوسطى وشرق أوروبا منذ غزوها السوفيتي ببداية القرن المنصرم، ولا يمكن نسيان الخلافات التي دبت بالبرلمان الأوكراني يوم 25 مايو 2012 والتي وصلت لدرجة التشابك بالأيادي وتبادل اللكمات والسباب بين النواب الأوكرانيين حيث كان سببها التصويت على مشروع قانون لزيادة العناية بلغات الأقليات في البلاد مما يعني بالضرورة تطويق اللغة الروسية بأوكرانيا تدريجيًا، ثم تتلقى اللغة الروسية اللطمة الأكبر عام 2014 بتصويت البرلمان الأوكراني بالإجماع على إلغاء قانون أسس السياسة اللغوية للدولة، ذلك القانون الذي سمح أنفًا باستخدام اللغات الاقليمية في المعاملات الرسمية. هذه التطورات اللغوية مثلت أحد محفزات إندلاع الحرب الأوكرانية التي بدأت بغزو روسيا لشبه جزيرة القرم في سبتمبر 2014 حيث اعتبرت موسكو لغتها الروسية في الأراضي الأوكرانية مستند رسمي يثبت سيادتها على هذه الأراضي بل وتبعيتها للهوية والأمة الروسية، وفور إعلان نتيجة إستفتاء القرم يوم 17 مارس 2014، قامت روسيا بإنزال جميع اللافتات المكتوبة باللغة الأوكرانية في الشوارع مثل مسميات البنوك، الشوارع، الفنادق والشركات واستبدالها بلافتات باللغة الروسية ومسميات روسية أيضًا، وسرعان ما تجدد العراك بالبرلمان الأوكراني بعد إلقاء ممثل كتلة المعارضة ألكسندر فيلكول كلمته باللغة الروسية يوم 13 مايو 2016.
وعلى الساحل الجنوبي للبحر الأسود المقابل لروسيا، لم تترد تركيا في التخلص من أبجديات العربية بعهد كمال أتاتورك عام 1928 حيث آمن أنها لا تقود للتقدم والحداثة بعد عدة قرون من الاستهلاك في الحياة العثمانية وهو ما سمى أنذلك بإصلاحات أتاتورك Atatürk Devrimleri حيث تحول حظر الأبجدية العربية بتركيا لقانون رسمي قيد التنفيذ رقم 1353 بدءًا من 1 يناير 1929 رغم أن محاولات هذا الحظر تاريخيًا تعود لعقود طويلة بالقرن التاسع عشر ومثلت حركة "تركيا الفتاة" حجر زاوية في هذا السياق.
ولا سيما، مثلت اللغة الفرنسية أداة محورية بالقرن التاسع عشر لتغيير هويات الأمم المستعمرة بفرضها لغةً أولى لا بديل لها مُخَلِفة ورائها صدمات ثقافية بين أبناء الجيل الحالي وتمزق في الهوية والانتماءات السياسية لصناع سياساتها الخارجية والداخلية على حد سواء.
القاهرة الإنجليزية!
في القاهرة، القلب النابض للعروبة لعقود بل لقرون طويلة، عندما تهبط بمطار القاهرة الدولي ستجد أمامك مئات من اللوحات الإعلانية التي طغت عليها الحروف اللاتينية حيث تفنن صانعيها في رسم الكلمات وانتقاء التعبيرات الرنانة والبراقة لإقناعك بشراء هذا المنتج المستورد من بلدان احتفت بحروف لغتها اللاتينية ليثبت أنه منتج أصلي فريد في جودته. وعند قياس المساحات التي إستوطنتها اللغة الانجليزية في قلب العروبة النابض، ستجد أن هذه المساحات لا حدود لها حيث تنتهي حيثما تجلس أنت في مكانك الآن وتقرأ مقالي هذا.. نعم يبدو لنا أننا نعيش في مدن إنجليزية الإسم والهوية.
ولم تعد الشركات العقارية تطلق أسماء عربية على المدن الجديدة بالقاهرة حيث باتت الأحرف اللاتينية السيد السائد في الإعلانات المتلفزة والملصقات بشوارع القاهرة بل وتدعوك للتمتع بأحيائها الإيطالية والفرنسية والأمريكية والبريطانية مثل دجلة بالمز، لو ريفيه، بالم هيلز، ماونتن فيو، بورتو سخنة، بورتو مارينا، بورتو بيراميدز، لا فيرد، جاردينيا هايتس، روك فيرا، سيسيليا لاجونز وغيرها من المدن المصرية، وحتى المسميات العربية باتت تُكتَب بحروف لاتينية.
وعند التفكير في هذا الغزو اللغوي الزاحف الظافر، سنجد أنفسنا أمام تساؤل "لماذا باتت اللغة الانجليزية بهذا الحجم من الاستهلاك في شوارع القاهرة بل أيضًا في التعاملات الحياتية اليومية للطبقة المثقفة المصرية التي يمثل أغلبها أبناء التعليم العالي في كل ربوع مصر". هل اللغة العربية لا تحقق إيرادات أو مبيعات عند تسويق منتجات معمارية أو استهلاكية؟، يعتقد صانعي قرارات الترويج بهذه الشركات أن المنتج ذات الإسم العربي يحظى بثقة واقبال فقير من المستهلك وبالتالي شراءه بثمن بخس أو تجنب شراءه وهو الهاجس الذي يهدد مودعي الاستثمارات والأسهم بهذه الشركات والذي يعني حتمًا خسائر فادحة في رأس المال.
لكن لم تعد المدن الجديدة إنجليزية الهوية فحسب بمسمياتها ومعمارها وتعاملاتها الحياتية، بل وصل الأمر للقنوات العربية والبرامج التي تقدمها، قنوات بحروف لاتينية ومقاطع انجليزية مثل شبكة قنوات CBC و Ten و OnTV و Hawacom و OnE وDMC وLBC، حتى القنوات الشعبية المصرية لم تسلم من ذات المكيدة لتُكتَب بحروف عربية مثلMazzika و Sha3beyat رغم أن هذه القنوات تخاطب الطبقة الشعبية الأقل معرفة باللغة الانجليزية بمصر والوطن العربي.
أيضًا البرامج باتت بمسميات انجليزية مثل Yes I'm Famous و Tech Talk و Cash or Splash رغم أنها نسخة عربية محاكية لبرامج بريطانية وأمريكية تُقَدم لمواطن عربي، ذلك الأمر الذي يطرح تساؤل حول قدرة الشعوب العربية على ابتكار برامج جديدة بمسميات عربية تناسب المواطن العربي.
وبلا شك لم تسلم وسائل التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك وتويتر من أبجديات اللغة الانجليزية الظافرة في تهجين غريب بين العربية والانجليزية في كافة أروقة الشارع العربي من الخليج إلى المحيط، وهو تطور خطير فعليًا يقضي على ما تبقى من لغتنا العربية، علاوة على تنامي اللغة العامية واللكنات المحلية بين الشعوب العربية لتزيد من قواسم الاختلاف بين العرب وتزيد احتمالات انشطار لغات محلية مستقلة عن العربية يصاحبها انشطار حتمي للهويات والسياسات بين العرب وتحويل الوحدة العربية لخيال يستحيل بلوغه.
وسط هذا الزحام، تقف شعوب الوطن العربي في دهشة وتساؤل حول هويتها العربية المهددة على نحو جسيم آخذين في الإعتبار المستوى المتدني للتعليم والثقافة في أغلب بلدان المنطقة.
البحث العلمي باللغة العربية.. في مأزق!
لم يتوقف إنتصار اللغة الإنجليزية عند هذا الحد، بل بات البحث العلمي بالدول العربية علامة فارقة ودالة قوية لوهن لغتنا العربية الذي تجلى بوضوح في تقارير منظمة اليونيسكو على سبيل المثال لا الحصر. ففي تقريرها السنوي لعام 2008، وصل عدد الكتب التي صدرت بالدول العربية حوالي 10 ألاف كتاب وهو رقم فقير مقارنة بدولة إسرائيل مثلًا حيث تم تأليف ونشر 6866 كتابًا.
وفي ذات السياق، عام 2012، نشرت المكتبة الوطنية الاسرائيلية مقال هام جدًا بعنوان (كم عدد الكتب؟ صورة النشر في إسرائيل 2012) رصد الاصدارات المسجلة لديها وبغلت عدد 8,176 إصدارًا جديدًا على أقل تقدير، منها 7,487 إصدارًا نُشِر في إسرائيل، و273 قرصًا مدمجًا و3,484 دورية.
وعند تحليل الأرقام على مستوى اللغة المستعملة بالكتابة، نجد أن المكتبة الوطنية الاسرائيلية سجلت عدد الإصدارات لديها 6,527 باللغة العبرية و472 بالإنجليزية، و220 بالروسية، و181 بالعربية، كما تم ترجمة 1,308 كتابًا من أصل 1,419 كتابًا إلى العبرية، أما البقية (111 كتابًا) فقد ترجمت إلى العربية والإنجليزية والروسية والأسبانية والفرنسية والألمانية.
خلف هذا العدد الكبير والثراء الزاهر من الانتاج للغة العبرية، تقبع سياسات متينة في إسرائيل، ويعد الإنفاق على البحث العلمي أحد رموز هذه السياسات حيث وصل لحوالي 4.2% من إنتاجها القومي في حين تنفق الاثني وعشرين دولة عربية مجتمعين 0.2% فقط وهي أرقام دالة وبينة.
والجدير بالذكر وضع الحكومات الاسرائيلية خطط وقوانين لزيادة الانتاج العلمي خاصة المكتوب باللغة العبرية، ويعد (قانون الكتب) من أشهر الأمثلة والذي ينص في إحدى مواده إلزام الباحثين إيداع نسخة واحدة من كل إصدار في أرشيف الدولة، ونسخة إضافية إلى مكتبة الكنيست، ونسختين إضافيتين تودعان في المكتبة الوطنية الاسرائيلية واعتبر هذا القانون المكتبة الوطنية الجهة المركزية لإيداع الاصدارات بإسرائيل. لكن الملفت للإنتباه عند تصفح تاريخ اللغة العبرية والبحث العلمي بإسرائيل، أن هذا القانون بدأ عام 1924 أي قبل قيام الدولة بأكثر عقدين وتطورت بنوده حتى تصديق الكنيست عليه يوم 18 ديسمبر 2000 كما يعد رمزًا لضبط المنشورات العلمية وجودة اللغة الوطنية للدولة العبرية، وتعتبر فرنسا الدولة الأولى التي فرضت قانون إلزامية إيداع نسخ عن الوثائق المكتوبة بالفرنسية بموجب "قانون مونفلييه" الذي أصدره الملك فرانسوا الأول عام 1537 بغية استحداث وتطوير آليات لتنمية الهوية الفرنسية بلغة الأم للشعب الفرنسي، وتفتقد أغلب الدول العربية لقانون مشابهة حيث تتعد مصادر الاحصائيات للإصدارات المعرفية بالدولة الواحدة وتتضارب أحيانًا في معايير ضبط المخرجات العلمية.
عدم التفوق التكنولوجي، الاقتصادي، والعلمي بات متجليًا سببًا رئيسًا وراء تراجع لغتنا الغنية بالمصطلحات والضوابط النحوية وتدني قدراتنا في إنتاج معرفي واقتصاديات تنافسية تناطح المنتجات الغربية لتحمل أبجديات لغة الضاد.. بل ولتطرح تساؤل:
هل أصبحت لغتنا إنجليزية في مدننا العربية؟!