الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لماذا وجه رئيس وزراء المجر هذا القدر الهائل من الإشادة للرئيس السيسي خلال قمة "الفيشجراد"؟


كل من يحلل الإشادة الهائلة التي وجهها رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان للرئيس عبد الفتاح السيسي خلال قمة "الفيشجراد "التي عقدت مؤخرا بالمجر ، لا بد وأن يدرك أن هذا المديح لا يمكن أن يكون نفاقا، بل نتاج تقدير كبير للسياسة التي ينتهجها الآن الرئيس عبد الفتاح السيسي لتشابهها مع السياسة التي نفذها الزعيم المجري أوربان ليجعل من بلاده التي لا يزيد تعداد سكانها عن عشرة ملاييين نسمة دولة تصدر للخارج منتجات بنحو 110 مليارات دولار في فترة لا تزيد عن 6 سنوات بعد أن كان العثور على الدولار في المجر ضربا من المستحيلات .

وبكل ثقة نستطيع أن نؤكد أن هذا المديح القوي الذي وجهه الزعيم المجري للرئيس السيسي لا يمكن أن يكون نفاقا فما هي المصلحة التي سيجنيها أوربان من وراء نفاق السيسي، فهو لا ينتظر منه على الإطلاق تولي منصب كبير في مصر ، ولا بالقطع مساعدات مالية لبلاده ، فالمجر بحجم ما تصدره للخارج بعد الإصلاحات والاعتماد على التصنيع والتصدير بالقياس بعدد سكانها المحدود تعتبر دولة غنية .

إذن فهذا المديح هو نتاج تقدير حقيقي للإصلاحات الجذرية والجريئة التي يقوم بها حاليا الرئيس السيسي في مصر رغم قسوتها على المستوى القصير ، لكنها سيكون لها إيجابيات هائلة على الإقتصاد المصري خلال السنوات الثلاث القادمة على أقصى تقدير .

ويرجع ذلك إلى أن هذه الإصلاحات التي يعترف الرئيس السيسي نفسه بقسوتها ستجعل من مصر دولة تعتمد في اقتصادها على قدراتها الذاتية خاصة في مجال التصنيع . وهذا يعني بناء اقتصاد جديد يقوم على تصدير المنتجات المصرية سواء المصنعة بأيد مصرية خالصة أو بالشراكة مع الشركات العالمية بدلا من الاعتماد على اقتصاد يقوم على المعونات والديون الخارجية وتوفير الدعم لمن لا يستحق .

ويعود ثقل مهمة الرئيس السيسي الى أن الإقتصاد المصري الذي ورثه من سابقيه انحصر بشكل شبه تام في المجال الخدمي الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالعوامل الخارجية . فالسياحة على سبيل المثال التي كانت تعتبر عماد الإقتصاد المصري خلال حكم الرئيس السابق حسني مبارك ، لم تعد البيضة التي تبيض ذهبا بسبب العوامل الخارجية وعلى رأسها الإرهاب والمخطط الذي يستهدف مصر في زمن إستراتيجية "الفوضى الخلاقة و زعزعة استقرار الدول وتقسيمها لدويلات على أسس دينية ومذهبية وعرقية وقبائلية ".

والدليل على ذلك أنه لو وقعت عملية إرهابية في فرنسا أو ألمانيا أو بريطانيا ، فلا أحد يتحدث عن ضرورة منع السائحين من التوجه لهذه الدول الأوروبية . لكن عندما يتعلق الأمر بمصر، فأول عمل إرهابي يعقبه منع السائحين تماما عن مصر ، وبذلك تتوقف السياحة لموسم أو موسمين وربما أكثر من ذلك حتى تستعيد عافيتها إنتظارا لعملية إرهابية جديدة تنزل بالإقتصاد المصري نفس الضرر .

وقبل الخوض في التشابه بين السياسة الاقتصادية لأوربان وسياسة الرئيس السيسي ينبغي أولا التذكير بما قاله الزعيم المجري أمام المنتدى الإقتصادي المصري المجري الذي جرى على هامش قمة الفيشجراد التي عقدت في المجر الأسبوع الماضي .

يقول أوربان "ماذا كان يمكن أن يحدث لو كانت مصر بدون السيسي ...إننا نستقبل في بودابست شخصية تاريخية اتخذت قرارات اقتصادية قاسية لكنها في الطريق السليم تتشابه مع ما اتخذناه نحن من قرارات .. لو كنا قد تقبلنا بعض النصائح التي كانت تمنعنا من اتخاذ إصلاحات إقتصادية تتماشى مع رؤيتنا الوطنية لكنا اليوم مثل اليونان نعاني خوفا من غضب الشارع ولم نكن لنصبح دولة اقتصادية واعدة في أوروبا ".

ولكي نوضح للقارئ ما كان يقصده الزعيم المجري من تشابه الأوضاع مع مصر ، فقد قدمت مؤسسات التمويل الدولية النصيحة للمجر بإنتهاج سياسة اقتصادية ليبرالية لاحدود لها تقوم على فتح أسواق المجر أمام المنتجات من كل صوب وهي بصدد التفاوض معها لمنحها 20 مليار دولار للمساهمة في إصلاح الإقتصاد المجري الذي ظل يعاني حتى 2010 .

وكشف أوربان عن أنه يريد أن يؤسس لاقتصاد وطني شبيه بالاقتصاد الذي تنتهجه الصين وروسيا أي الإنتاج والتصدير والإعتماد على المنتج المحلي .ومن يتابع توجهات الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب سيلاحظ أنه سيسير في نفس اتجاه أوربان ، فترامب يتحدث عن مخاطر فتح الأسواق الأمريكية أمام الصناعات الصينية واليابانية والكورية والهندية مما أنزل أبلغ الضرر بالصناعات الأمريكية .

وفور حصول أوربان على مساعدات قدرها 20 مليار دولار من صندوق النقد الدولي والمؤسسات المانحة الأوروبية انتهج مسارا ارتكز على النهوض بالصناعات الوطنية لتحقيق أكبر قدر ممكن من الاكتفاء الذاتي والتصدير للخارج.

يقول أوربان في هذا الصدد أمام المنتدى الإقتصادي المصري المجري " نحن دولة صغيرة تتكون من 10 ملايين نسمة على أكثر تقدير ومساحة بلادنا محدودة ، لكن مصر ذات كثافة سكانية عالية وسوق كبير وعدد سكانها كبير يقترب من 100 مليون نسمة فكما استطعنا نحن الصغار تحقيق التنمية فأنا أعتقد أن مصر بسوقها الكبير وما تمتلكه من قدرات تستطيع أيضا أن تحقق ما حققناه " .

وهنا ينبغي أن نتحدث عن أهم خطوة اتخذها الرئيس السيسي وهي تعويم الجنيه  . فبرغم قسوة الإجراء الذي ساهم في رفع معدلات التضخم إلى ما يزيد عن 30 في المائة، وزيادة أسعار المنتجات المستوردة بنسبة 100 في المائة، إلا أن قرار التعويم يعد العمود الفقري لإستراتيجية السيسي لتحويل الإقتصاد المصري من اقتصاد خدمي لإقتصاد صناعي و زراعي و تكنولوجي يلبي مطالب السوق المصري الكبير والتصدير للخارج بأسعار تنافسية .

فكيف كان لمصنع مصري أن يصنع أي منتج ويشغل عمالة مصرية و يكافح البطالة خاصة بين الشباب وقد توافر بديله المستورد من الصين أو الهند أو تركيا بأسعار تقل عن السعر المصري نظرا لتدني أسعار الدولار.

فاليوم مع ارتفاع سعر صرف الدولار يمكن أن يعود لمصر من جديد لقب " رجل الصناعة" فنرى أكثر من طلعت حرب باشا في المرحلة القادمة .

يقول الزعيم المجري في هذا الصدد " لا بد على الأقل أن يكون أكثر من 50 في المائة من الإقتصاد المجري في أيدي المجريين خاصة في أيدي القطاع العام للدولة ورجال الصناعة من القطاع الخاص و ليس في أيدي الأجانب، لأن هناك دوائر مصالح أجنبية في المجر تريد أن تؤثر على الدولة المجرية و نحن لا نريد ذلك ، نحن نريد أن نكون مصنعين و لسنا مستوردين ".

ولهذا قررت القوات المسلحة المصرية أن تكون سندا قويا للرئيس السيسي في الإصلاحات الإقتصادية لتحويل الإقتصاد المصري إلى اقتصاد منتج يخوض غمار صناعات إستراتيجية ذات قيمة مضافة عالية مثل الصناعات البتروكيماوية .

ومن المتوقع أن يلعب قطاع البتروكيماويات دورا مهما في نهوض الإقتصاد المصري لا سيما في زيادة معدلات الصادرات المصرية على ضوء تحول مصر إلى واحدة من أهم دول العالم في مجال إنتاج الغاز و الغاز المسال.

ويرجع تحمل الجيش لهذه المسئولية إلى تراجع دور القطاع العام المصري في مجال التصنيع بعد أن التهمت الرواتب و التعيينات معظم ميزانياته مما منعه من تطوير نفسه ، فضلا عن إهتمام القطاع الخاص بالربح السريع من خلال المشروعات الخدمية ، في مبان أسمنتية في كومباندات مغلقة معظم العام و مقاهي و كافيهات و مولات تضم كل أنواع المستورد الذي يدير عجلة الإنتاج في الدول الأجنبية و يوقفها في مصر .

وتعكس تصريحات طارق قابيل وزير الصناعة أمام المنتدى الإقتصادي المصري المجري إستراتيجية مصر في مجال التصدير للتحول إلى دولة حقيقية و ليس شبه دولة كما يقول الرئيس السيسي، يقول قابيل " لقد نجحت سياستنا في إدخال صادرات مصرية جديدة للاسواق المجرية مما زاد من معدلات الصادرات بمقدار 197 في المائة في عام 2017 ...فلأول مرة تدخل الأسواق المجرية الاسمدة المصرية. وأضاف أن زيادة الصادرات يندرج في إطار خطة الوزارة لتعزيز تنافسية الصادرات المصرية للاسواق الخارجية بمعدل 10 في المائة سنويا وفقا لاستراتيجية الدولة برفع مساهمة الصناعة في الناتج المحلي الإجمالي إلى 21 في المائة .

وفي هذا الإطار أعلن مؤخرا وزير الصحة أحمد عماد الدين عن إقامة أول مصنع لأدوية الهرمونات في مصر والشرق الاوسط و إفريقيا ، و هي صناعة دوائية في غاية الأهمية ، لم يقترب أحد منها على الإطلاق في مصر رغم تزايد الطلب المحلي و الإفريقي و العالمي عليها . و يرجع البعض ذلك إلى ما كانت تتطلبه هذه الصناعة الدوائية من توافر تكنولوجيا متقدمة لم تكن متاحة بينما يرى البعض الآخر أن عدم خوض مصر هذا المجال يعود للوبي الإستيراد الذي كان يحقق المليارات من الإستيراد في الخارج .

يوضح وزير الصحة ذلك فيقول "إن مصنع الهرمونات ينتج أقراصا و أمبولات وحقنا في مجالات منع الحمل ومعالجة العقم و الكورتيزون بأسعار أرخص بكثير من المستورد الذي أصبحت أسعاره خارج المتناول بعد قرار التعويم، مؤكدا أن مصر ستقوم بتصدير فائض المصنع إلى الدول الإفريقية . كما كشف عن قيام الوزارة بإقامة مصنعين لنفس النوع من الدواء في إفريقيا و بالتحديد في غرب و شرق القارة السمراء .

وأخيرا و ليس آخرا ، دشنت اليوم الهيئة العربية للتصنيع السيارة تويوتا فورتشنر الجديدة كليا بالتعاون مع شركة تويوتا العالمية في دليل جديد على حرص الدولة على " صنع في مصر " سواء من خلال القطاعين العام والخاص أو بالشراكة مع الشركات العالمية .

ونختتم المقال بتعليق الرئيس السيسي عندما كشف في أحد لقاءاته مع الشباب عن أن سبب إندلاع ثورة 25 يناير وغضب الشعب المصري على النظام حينذاك لا يعود لما تم الترويج له . يقول السيسي بوضوح أكبر " لم يكشف أحد للمصريين عن الحقيقة ....فإندلاع الثورة يرجع إلى خوف الحكومات المتعاقبة طوال 30 عاما من إتخاذ الإصلاحات الإقتصادية الحتمية خشية إغضاب الشارع ...نافيا نفيا قاطعا إرجاع سبب إندلاع الثورة لسبب غير حقيقي في إشارة واضحة لمخطط توريث الحكم لجمال.

وننهي أيضا المقال بمطالبة الرئيس السيسي للمصريين بقدر من الصبر و التحمل حتى تؤتي الإصلاحات أكلها، وتصبح مصر نمرا إقتصاديا ، لأن الدول لا تتقدم إلا بإرادة مشتركة بين الحاكم و الشعب . والمثال الواضح للعيان عن هذه الشراكة هو ألمانيا فالشعب الألماني تحمل ما لا يتحمله بشر في أعقاب الحرب العالمية الثانية و لم يكن في المدن الألمانية " طوبة فوق طوبة " من حجم الدمار، لتتحول ألمانيا بفضل صبر الشعب الألماني و مثابرته إلى أقوى إقتصاد في أوروبا في الوقت الحالي. وعلى المستوى الإقتصادي تحمل الشعب البرازيلي لمدة زادت عن 10 سنوات إصلاحات إقتصادية اكتوى خلالها الشعب البرازيلي بنارها لكنها حولت البرازيل اليوم لسادس أكبر إقتصاد في العالم .

فهل يصبر الشعب المصري حتى تحقق الإصلاحات نتائجها المرجوة خلال السنوات الثلاث القادمة ؟ أعتقد سيفعل لأن المصريين عندما يريدون يفعلون .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط