الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هند العربي تكتب: أكذوبة المدينة الفاضلة

صدى البلد

يصف أفلاطون في كتابه "الجمهورية" مدينة مستقبلية فاضلة يحكمها الفلاسفة والحكماء، أو ما تسمي بـ "يوتوبيا"، الحلم الأفلاطونى الفلسفى بمجتمع خال من العيوب يزخر بأسباب الراحة والسعادة لكل بني البشر يساعد بعضه البعض على التطور والتنمية، ويسوده المساواة بين أفراده، وغيرها من التفاصيل التى تمناها الفيلسوف".
و"اليوتوبيا Utopia" تسمية نحتها البريطاني "توماس مور" في القرن السادس عشر الميلادي كنوع أدبي، بمعنى "لا مكان"، وكان أول من استخدم هذا التعبير، حيث صورها بمدينة تعيش أجواء نظام مختلف عن إقطاعات العصور الوسطى المظلمة في أوروبا آنذاك، ينتشر فيها الخير ويعم السلام بين أفرادها لا يوجد بها أثر لأي شكل من أشكال الشر، وهذا علي عكس الطبيعة البشرية والحياة التي كما بها الخير بها الشر وإلا فلا وجود للعقاب والحساب والجنة والنار، وعلى النقيض تخيل "توماس" الناس في مدينته يعملون لست ساعات على الأكثر يوميًا، ويشتركون في الموارد فيما بينهم، وصفها بمجتمعات مثالية تسعى إلى تحقيق عدالة مستديمة، ومن هنا قد تحوّلت "اليوتوبيا" إلى فاتحة نوع أدبي جديد تعطى البشرية أملاً في الغد، ولكن مع تفشي الغزوات الاستعمارية ومآسي الحربين العالميتين وفقد الأمل، تحولت إلى النقيض حتى وصفت "بالدستوبيا" عكس "اليوتوبيا" كتشبيه للسخرية من محاولات تحقيق المستحيل والحياة فى عالم مثالى.

فهذا الحلم اليوتوبى عند الفلاسفة كانت له أسباب ودوافع، جعلهم يحلمون بمدينة فاضلة تحوى نظام فاضل وكامل وعادل ومثالى، لولا وجود التناقضات الاجتماعية والسياسية والتربوية فى المجتمعات والتى عايشها هؤلاء الفلاسفة والحكماء وغيرهم مما جعل صعوبة الإمكان والتفكير فيها، والتي لا تزال موجودة الآن وأكثر وبالتالي يصعب تحقيق هذا الحلم إلى الأبد.

فلم يعد هناك وجود لما يسمي بالمدينة الفاضلة تلك الحلم الذي تمناه "أفلاطون" وغيره من الفلاسفة ظنا منهم أنهم لحكمتهم سوف يجعلون كل شيء في هذه المدينة معياريا، وبناء عليه ستكون فاضلة، مدينة عبارة عن وحدة حية تتكون من أعضاء والفرد خلية فيها، مدينة يجد فيها المواطن والمقيم والزائر أرقى وأكمل أنواع الخدمات وبأسلوب حضاري بعيدًا عن التعقيد والروتين وسوء التعامل والمعاملة، مقترح لمدينة جديدة ومختلفة عن كل مدننا ليس الاختلاف في المظهر العمراني فقط بل في كل شيء لتشمل المستوى الحضاري والسكاني والأداء الخدمي الحكومي والخاص، أي أنها مدينة أساسها الإنسان نفسه بجميع أوضاعه الاجتماعية سواء كان مسئولا أو عاملا أو موظفا، كبيرا فى السن أو صغيرا، رجلا أو امرأة أو عجوز، مواطنا أو مقيما، وفي الشارع، وفي العمل الحكومي والخاص والمساجد و والكنائس والأسواق، وخلافه علي أن تجد معني "الفاضلة" أي المثالية.

فكثيرا منا تمني وعاش مشاعر رومانسية تجاه مدينة أفلاطون الفاضلة؛ تلك المدينة التي يحكمها الفلاسفة، ويدافع عنها المحاربون، ويعمل فيها بحماس باقي أفراد المجتمع.

ومن منا لا يريد أن يعيش في مدينة كهذه!!؟

إلا أن هذه الصورة المثالية للمدينة الفاضلة تهاوت شيء في شيء بعد أن طال خيبة الأمل الكثيرين جراء مصاعب وظروف الحياة وأوضاع الكثير من البلدان.

فقد أخطأ أفلاطون حين ظن أن مدينته الفاضلة ستكون في يوما ما على أرض الواقع، فكما يتمتع الفلاسفة بالحكمة في العديد من الأوضاع والأمور في نفس الوقت يصفون بالخيال الذي لم يمت بالواقع والحقيقة بشيء، وهو بالفعل ما ينطبق علي أسطورة "يوتوبيا" !

ففي الواقع نقطة الخلاف في صعوبة وجود المدينة الفاضلة في جميع بقاع الأرض وليست في مصر فقط، والمدي الزمني المطلوب للوصول إلى ما نبتغيه، فما يعرقل وجودها عدة أمور كأعداء الدولة الذين يسعون جاهدين لتفكيكها، والفساد بكل اشكاله في كل مجال بل وتشمل الأسر والمجتمع الواحد، والكسل والعجز والفشل وتحالف قوي الشر في كثير من العصور ضد أية محاولات للإصلاح، وأحيانا بسبب ما في هذه المحاولات من أفكار غير واقعية، وأحيانا بسبب ما في بعضها من مبادئ تخالف الفطرة الإنسانية لا سيما عند أفلاطون في مدينته التي ظنها فاضلة، وغيرهم مما يبعدنا بطبيعة الحال عن سمات مدينة أفلاطون الفاضلة لتتحول إلى غير الفاضلة.

فالمدينة الفاضلة أو "اليوتوبيا" هي حلم الإنسانية‏،‏ ومع ذلك لم تتمكن الإنسانية من تحقيقه حتي الآن‏، وكل النتائج النهائية تؤكد فشل تحقيق ذلك الحلم الفلسفي، حتي حالم مدينة "يوتوبيا " فشل في تحقيق حلمه الذي كان يعلم أنها غير ممكنة علي أرض الواقع، فعندما يسود حب الغير، والتعاون فيما بيننا و السعي للإصلاح، والتسامح والرفق في المعاملة، وبذل العطاء والتحلي بالجود والكرم، وسلامة الصدور من الغل والأحقاد وحب الذات فقط، والسعي لرفعة الوطن، وتقديم الصالح للناس، وحب المحكوم للحاكم والعكس ومسئوليته تجاه، واجتهاد كل مسئول تجاه ما وكل عنه، والبعد عن الغش والكذب والتضليل ومحاربة أوجه الفساد والفشل، وإتقان العمل، وإذاعة الخير بين البشر ومحاربة أوجه الشر، نتساءل بعدها هل سيكون لـ"اليوتوبيا" مكانا علي الأرض أم ستظل علي أنها أكذوبة في خيال بعض الفلاسفة...؟ وإن كنت أعلم صعوبة ان نرتقي لإتباع وسلك تلك الطرق في الحياة وتحقيق تلك المعاني السامية؛؛ لذلك أعتقد أن لا وجود فى الحقيقة للمدينة الفاضلة !

فدعنا من الخيال وأحلام الفلاسفة وليبدأ كل منا بنفسه، فجميعنا جاء علي هذه الأرض من أجل رسالة وأدوار محددة وليس بمحض الصدفة وإن كان لزاما عليه تحقيقها علي أكمل وجه، وعندها سيتحقق ولو بعض الشيء من "اليوتوبيا" المثالية بداخلنا.