الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

خط السكة الحديد.. قضية الصعيد الأولى


حين ترتحلُ إلى الصعيد، فأنت في واقع الأمر تقتربُ من أصول "شخصية مصر" في صورتها الأولى، والتي لم تتمكن من النيل منها يدُ المدنية بالعبث.. فما أن تتهادى عربات القطار لتتوقف أمام وجهتك في أيٍ من محافظات الوجه القبلي، حتى تصادفك تلك الوجوه السمراء، للشخوص المنغرسة بجذورها في أرض الجنوب الطيبة، والتي يتراءى في أعينها بريق الأمل رغم شظف العيش، وتتلألأ روحها النقية كالمعدن النفيس، لا تخدشه يدُ الزمان، أو تؤثرُ في بريقه وأصالته.

أيامٌ قضيتها في الجنوب ضمن فريق التغطية الإعلامية لزيارة حكومية، شكلت تجربة فريدة أتاحت لي الانغماس في قضايا الصعيد وهمومه، والتي طالما تصدت له الحكومات لعقود طويلة بأذن من "طين" وأخرى من "عجين"، حتى تفاقمت مشكلاته، وتضخمت ككرة الثلج، وغدت الاستثمارات الحكومية التي تضخُ في محافظات الصعيد، غير قادرة ــــ مهما عظُم حجمها ــــ على ايجاد تأثير ملموس في حياة المواطن الصعيدي، والذي تتواضع مطالبه في مئات نجوع الصعيد كما رأيت، لتنحصر في مياه شرب نقية، مسكن لائق، طريق ممهد، سرير عناية مركزة، منشأة تعليمية مُحفزة، وفرصة عمل كريمة (بلغت الاستثمارات الحكومية الموجهة لتنمية محافظات الصعيد في موازنة العام المالي 2018 /2019 نحو 25.6 مليار جنيه وفق تصريح للدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والمتابعة، بزيادة 20% مقارنة بموازنة العام 2017/2018).

رُبما كان لرحلتي إلى الجنوب بواسطة القطار، والتي استغرقت ما يناهز 20 ساعة ذهابًا وإيابًا، أثرٌ في أن أرى أن قضية الصعيد الأولى، تبدأ من خط السكة الحديد العتيق، الذي يعدُ الجسر الأهم لربط أهالي الجنوب في كافة أنحاء مصر، بجذورهم الممتدة هناك كالأوتاد.. في الفشن، ونجع حمادي، والقرنة، وديروط، واسنا، وقفط، وجرجا، وإدفو، وغيرها من مدن الصعيد وقراها.. تلك الجذور التي يحرصون على عدم الانفصام عنها، بل تعد ميراثًا وثيقًا يوصون به الأبناء والأحفاد.

فعلى رصيف رقم 11 انتظرت رحلتي على القطار رقم 2014 المتجه إلى قنا، والذي تأخر لساعة كاملة، كسرت خلالها رتابة الانتظار بمتابعة مرور القطارات المتتابعة، من كافة مستويات الخدمة، تحمل في قلبها آلاف البشر، وربما كان التأخر لساعة، مؤشرًا لا أود التوقف عنده، بالنظر إلى كونه حدثًا عارضًا، إلا أن تأملاتي خلال هذه التجربة، جعلتني مدفوعًا للتطلع إلى قيام وزارة النقل ممثلة في هيئة سكك حديد مصر بإسراع الخطى في استكمال خطط التطوير التي يخضع لها هذا المرفق المهم، لتتم وفق المعايير العالمية المعلن عنها، والبرامج الزمنية المحددة، حيث تشملُ تلك الخطط بحسب ما تعلنه وزارة النقل في تجديد وصيانة السكة لمسافة نحو 1000 كم، والتطوير الشامل للمزلقانات على خطوط الشبكة بإجمالي نحو 1039 مزلقانًا، لرفع درجة السلامة والأمان للركاب، إلى جانب تطوير وتحسين محطات السكة الحديد بالوجهين القبلي والبحري بواقع نحو 133 محطة، فضلًا عن برامج إحلال وتجديد أسطول الهيئة من الوحدات المتحركة كالجرارات والعربات، والتي من أبرزها التعاقد المبرم مؤخرًا مع التحالف المجري الروسي لتوريد 1300 عربة نقل ركاب حديثة والذي وصفته الوزارة بالتعاقد الأضخم في تاريخ السكة الحديد.

ولعل أمانة القلم تحتمُ أن أشير إلى أن خطط النهوض بمرفق السكك الحديدية بقدر ما تنعشُ آمال الملايين من المصريين في تطوير الخدمة على نحو أفضل مستقبلًا، إلا أنها تثير في داخلهم المخاوف من تكلفة هذا التطوير، في ظل تأكيد الدكتور هشام عرفات وزير النقل مرارًا أن التطوير سيتبعه رفع أسعار تذاكر القطارات والتي كان آخرها خلال اجتماع لجنة النقل المواصلات بمجلس النواب يوليو الماضي.. وربما أجدُ هذه الموضع ملائمًا لأرجو وزير النقل أن تسبق الدراسة المتأنية، إعادة تقييم أسعار تذاكر القطارات عقب أعمال التطوير، فخط السكة الحديد بمثابة شريان حياة لأهالي الصعيد، والزيادة لا ينبغي أن تفرض أعباءً جديدة، تُثقل كاهل أولئك الذين ينتظرون موسم الأعياد، ليصطحبوا الأبناء والأحفاد، في رحلةٍ تمثل لهم العودة إلى الجذور.

وأخيرًا.. ينادي أهل الصعيد على رئيس الحكومة بلقب "الوزير"، وهو ذات اللقب الذي يدعون به "المحافظ"، الأمرُ الذي وإن كان يعكسُ بساطة نفوس أهل الجنوب، فإنه يشير إلى سقف الطموح لديهم، فهم لا ينشدون أكثر من أن يتطلع "المحافظ" نحوهم، لتلبية مطالبهم.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط