الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الرحيل


هناك إنسان إذا فقدته شعرت بالحسرة، وآخر إذا فقدته شعرت بالندم، وآخر إذا فقدته شعرت بالملل. وكلما كان هذا الإنسان عزيزا"... شعرت بالوحشة

كلما طاف بخاطري ذكرى الراحلين، كلُ الراحلين على السواء، يفيضُ المكانُ بالحنين، وتتشربُ المسامُ رحيقَ الذكريات الجميلة وتتسمع أُذُناي أصواتا" بعيدة، آتية من عالم بعيد و سعيد، وكأنني أتنزه في حديقة من الورد، مرتاح البال، نقي السريرة، غير عابئ بالحياة ومتاعبها.
فحيثما كان الموت مؤلم.... فثمة ذكرى تطبب الجراح.

Top of Form
تقول الحكمة: إن الشخص المهم في حياتك ليس هو الشخص الذي تشعر بوجوده ولكنه الشخص الذي تشعر بغيابه.

نحن لا يؤلمنا غياب الأحبة حزنًا عليهم، بل حزنًا علينا نحن، وكثيرًا ما يقال في المواساة ( هو في مكان أفضل)، في الحقيقة أنا لا أجد في تلك الكلمة مواساة حقيقية، لأننا نتمنى دائمًا على الله أن نكون جميعًا في مكان أفضل بعد الرحيل، وهذا المعتقد يكون بقدر إيماننا بالله، وبقدر اليقين الثابت في أنفسنا والواثق في رحمته. نحن في حاجة مُلِحة إلى أن نشعر أن هذا الحبيب الذي فقدناه هو معنا وليس في مكان آخر ، هو بيننا ولكننا لن نراه ، ونحن، برغم الغياب، نعد العدة لللحاق به، كل ذلك كي تتبدد فكرة الغياب. 

يقول المتنبي: إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قدروا ..... ألا تفارقَهمْ فالراحلون هُمُ
نعم ، نحن الذين رحلنا حين فارقنا الأحبة، نحن الذين نشعر بالغياب، بالوحشة ، بالألم ، نحن الذين نشعر بالفقد. أما الذين فقدناهم فهم في طريقهم المصيري يسيرون، هم ينظرون إلينا من مكانهم العلوي ولكنهم مشغولون بما لا نعرفه ولا يمكننا أن نتنبأ به ، نحن هنا في الدنيا نعيش تجربة الفقد كاملة،وحدنا، وتلك التجربة وما تحمل من تفاصيل هي العزاء الذي نقدمه لأنفسنا، الإنغراق في التأمل والتفكير والبكاء، النظر في صورهم واسترجاع شريط الذكريات هي في الحقيقة المواساة التي نقدمها لأنفسنا كي لا نشعر بالوحدة. نحن لا نقدم لهم ما يواسيهم،ولا نستطيع، بل نقدم لنا ما نواسي به أنفسنا.

نحن في الحقيقة نمارس التعود على الفراق في كل مرحلة من حياتنا ، فنفارق أصدقاء المدرسة إلى أصدقاء الجامعة ، ونفارق أصدقاء الجامعة الى زملاء العمل ، ونفارق بيت الأهل وننتقل إلى بيت الزوجية، ونفارق وظائفنا أحيانًا لنلتحق بأخرى، ونفارق بلادنا بالسفر، نحن نودع الخريف لنستقبل الشتاء، ونودع الشتاء لنستقبل الربيع، ونودع الربيع لنستقبل الصيف ، نحن نفارق يومنا بالنوم ، ونفارق الحلم باليقظة، نحن نهجر العادات ونخوض في عادات جديدة، نحن نفارق جسد الطفل المفعم بالمرح إلى جسد المراهق المفعم بالنشوة ،ثم نفارقه لندخل في جسد الكهل المفعم بالأمل ، ثم ننتقل إلى جسد الشيخوخة المثقل بالأوجاع والجهد، حتى نصل الى أعتاب الموت نكون قد مارسنا الفراق كثيرًا وتمرسنا على الرحيل مِرارًا.

صورة الفوتوغرافيا التي نبتسم فيها وننظر إلى عدسة المصور تقطعها الكاميرا في جزء من الثانية، وبعدما يفرغ المصور من إلتقاط الصورة نذهب لنرى اللقطة، ونسعد بها، كم هي جميلة ، وكم كان المنظر مدهش حقًا ..لكننا لا ننتبه كثيرًا أن تلك الصورة هي زمن فارقناه ورحلنا عنه ولن يعود ، حتى لو تكررت نفس اللقطة في نفس المكان مع ذات الأشخاص !

الرحيلُ أليمٌ بلا شك، مُوجع بلا هوادة، ولكن الحياة تتجدد فينا كل ثانية، وتأبى أن تنهزم في معركتها معه، تتجدد بالأمل في الحياة، وفي اليقين بأننا سنلتقي يومًا لنكمل ما بدأناه، تتجدد بالذكرى الطيبة وبالوعود و بأصوات الراحلين التي ترن صداها في المسامع، في خفقات القلب حين نتذكرهم وفي الدمعة التي تنفلت من العين حين يجول بخاطرنا ذكراهم، في الصورة والصوت الباقين منهم، في زجاجة العطر التي لم يفرغ محتواها وخلفوها وراءهم، في ملابسهم التي تفوح منها رائحة أنفاسهم، في أشياءهم البسيطة التي تركوها، في الطريق الذي خَطَوه تاركين فيه أثار أقدامهم.

يقول عبدالرحمن الأبنودي في قصيدة العمة يامنه :
إذا جاك الموت يا وليدي
موت على طول..
اللي اتخطفوا فضلوا أحباب
صاحيين في القلب
كإن ماحدش غاب

نعم، كما قال الأبنودي ( صاحين في القلب ). فالرحيل ينشط في القلب المحبة ويختبر صدق المحبين، ويأتي إلينا وفي يده المواساة، يربت بها على أكتافنا ، ويمسح بها الدموع .
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط