الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

أحمد صلاح يكتب: سندس

صدى البلد

تدفع بعربة صغيرة من تلك العربات التي تصنع في الورش، عربة من الحديد الثقيل تسير علي عجلتين، العربة طويلة ولها زراعان عقفا من اخرهما بزاوية شبة مستقيمة لتتيح من يدفعها ان يتحكم فيها، تضع علي العربة أنبوبة غاز أو اثنتان، شارع التبليطة ينحدر من جوار الأزهر حتي قبة الغوري ويصبح دفع العربة وصعوده الي أعلي ذلك المنحدر مرهقا.

كنت أقف خارج التكية أحاول اجراء مكالمة، عندما وجدتها تنعطف فجاة أمامي من شارع حمام التبليطة وتدفع العربة بجبروت صاعدة بها المنحدر الصعب، بدون ارادة مني وجدتني اغلق الهاتف واقول
"أساعدك؟".

دون أن تنظر لي هزت رأسها نفيا وعلي ملامحها لا تعبير وكأنني لم أتكلم، برغم صوتي الهامس سمعتني أم مصطفي فضحكت وهي تشعل سيجارة
" ما يبقاش قلبك رهيف يا ما هتلاقي في التبليطة والباطنية كلها"
شعرت بالحرج لثوان، ويبدو أن وجهي قد احمر، ولكن ام مصطفي اكملت
" دي البت سندس بمليون راجل.. طول النهار رايحة جاية زي مشوفت .. بتوزع أنابيب ... فين سجيرك اللف"
كنت قد لففت بضع سجائر في علبة، اخرجت واحدة وناولتها لأم مصطفي التي وضعتها في طرحتها واكملت سيجارتها المشتعلة
" مافيش بيت فيكي يا جمالية إلا ويعرف سندس ومعاه رقمها .. يرنوا عليها تجيب ليهم أمبوبة .. حتي في عز ازمة الأنابيب.. بت دقرمة .. عارفة شغلها وبتجري علي أخوتها "
لمحت سندس من اخر الشارع عائدة تدفع عربتها بطء هابطة المنحدر، وتأملتها، متوسطة القامة، وسيمة القوام، عبائتها كالحة قديمة، وجهها مرهق ولكن الارهاق لا يخفي جمالها، أكثر ما يميزها عيناها التي بلون العسل الصافي وشفتين تشبهان ممثلات السينما .. نادت ام مصطفي
" سندس.. انتي يا بت .. تعالي اشربي الشاي معايا"
دون أن تنظر لي .. أو حتي توقف عربتها .. قالت سندس وهي تمر
" يدوم العز يا خالة.. وقت تاني "
" خلصي اللي وراكي ومستنياكي"
عمزت لي أم مصطفي ، ولم ترد سندس، دفعت عربتها أمامي، لا تراني تماما، أو كأنني هواء أو شبح لا يظهر لها، تابعتها حتي انعطفت واختفت، ضحكت ام مصطفي بشقاوة ثم هتفت
" معسل يا خيار ونفسك في السلطة"
ضحكت وانا أوليها ظهري وادخل التكية، تلك المرأة الخبيثة، تظن أنني أشتهي سندس، ولا تعلم أنني مهترئ تماما من داخلي ولن تنفع معي مائة سندس لتعيد رتقي أو حتي انارة ما انطفأ، مر اليوم سريعا وكان عدد الزائرين للمتحف لا باس به، اغلقنا المتحف وبدأت رحلتي اليومية في أن أجوس في حواري الجمالية والباطنية، دخلت احد الشوارع الساكنة وكان مظلما ، فجاءة ظهر أمامي مصطفي، خرج مثل الشبح من احدي الأزقة ، أمسك بيدي وبدأ يجرني
" أمي عوزاك"
أجفلت للحظة ، رميت بيده الممسكة بي بعنف، أكمل الفتي الصغير أن أمه أوصته أن يتربص بي بعد الانتهاء من عملي وأن يأتي بي الي حوش بديعة، توجست خيفة،ولكن الفتي غمز لي بنفس طريقة أمه التي ورثها منها وهو يقول
" مش هتندم"
سار مصطفي أمامي ومشيت خلفه نخترق أزقة وحواري الباطنية، حواري مظلمة قذرة خالية تقريبا، الكلاب والقطط والفئران والعرس تتخلل خطواتنا، قلت للفتي أنني لن أستطيع العودة وحدي من تلك المتاهه فرد بثقة أنه سيعود بي مري اخري حتي جامع البنات، اصبح الظلام كثيفا وانعدم النور في ذلك الزقاق ، ثم ... وصلنا الي مكان عجيب
بوابة اثرية قديمة تهدم بعضها واختفت الجدران حولها، عبرنا البوابة لنجد خرابة مليئة ببقايا عربات الكارو وفرد الكاوتش وعربات الفول المكسرة وبعض أجزاء من سيارات، مرقت بجواري قطة مذعورة ، وزمجر كلب، هبطنا بضع درجات لنصبح في صدر الحوش الذي يشبه المقبرة، سار أمامي مصطفي وهو يحذرني أن ادوس علي روث كلب او مسمار مقلوب حتي وجدت أمامي غرفة صغيرة مبنية من الطوب الأحمر، لها باب يظهر من اسفل عقبه ضوء اصفر ، طرق مصطفي الباب ، وبعد ثوان فتح الباب لأجد أمامي أم مصطفي وسندس وإمرأة أخري
" يا أهلا يا أهلا"
هتفت أم مصطفي ووجدت سندس للمرة الأولي تنظر لي وتبتسم، أما المرأة الثالثة فنظرت لي مدهوشة ورفعت حاجبيها ، كانت الغرفة ضيقة، لمبة تشع نورا كابيا مدلاة بسلك أسود من روث الذباب، كليم قديم علي الأرض جلسن عليه وحشايا قديمة مهترئة وضعنها خلف ظهورهن يستندن عليها، الرطوبة أكلت الطلاء وبان الطوب والأسمنت في بعض المواضع ، علي الأرض وجدت "منقد" به فحم متوهج، وبجواره جوزة وجردل ماء وطقم كامل من حجارة المعسل، وفي ركن أخر براد شاي وبرطمانات بها شاي وسكر .
دعتني أم مصطفي للجلوس بجوار سندس التي ارتدت جلبابا ضيقا مزركشا بالوان مبهجة، وضعت بعض الكحل واحمر الشفاة، تركت بضع شعيرات تنفر من طرحتها، المرأة الثالثة ابتسمت فقط وأنا لا أستطيع أن احدد لها ملامح ، فقد كانت بدينة للغاية، اندكت في بعضها وهي جالسة فلا استطيع أن اتبين عجزها من بطنها من صدرها، حتي رقبتها ووجها امتزجا لتصبح مثل اعلان كاوتش ميشلان .
بدات المراة البدينة في تغيير مياة الجوزة، سندس تجهز الفحم وتنفخ فيه، اما ام مصطفي فتناولت عدة الشاي وهي تقول
" ما شربناش الشاي مع سندس العصرية نشربه دلوقتي"
نظرت لسندس التي ابتسمت ابتسامة حلوة لتظهر غمازتين علي جانبي وجهها، بدأت سندس تعد الجوزة ، ام مصطفي تضع الشاي والسكر في الأكواب، دست سندس يدها في صدرها لتخرج قطعة حشيش ضخمة، قطعت جزء صغير باسنانها، لترص حجرا مفعما وتضعه علي راس حجر ثم تدير المرأة الثالثة قصبة الجوزة لتصبح أمام شفتي، همست سندس
" دي علشان اصالحك .. شهرين مش معبارك"
فتحت عيناي دهشة، انا لم المح سندس الا اليوم فقط، وهي كانت تراني علي مدار شهرين كاملين، ضحكت ام مصطفي وجلجلت ضحكتها الشقية ، في حين مصمصت البدينة شفتيها الضخمتين، انا لا أدخن الحشيش، شممته في جلسات اصدقائي، الهبو فقط جعلني ادوخ، راسي خفيفة للغاية بالرغم من شربي للقهوة السوداء وتدخيني السجائر بشراهه، ولكن كيف أقنع ثلاث سيدات وانا الرجل الوحيد بينهن انني لا ادخن الحشيش
البوصة مازالت امام شفتاي وسندس تنظر لي وتبتسم منتظرة قبلتي علي شفتي البوصة، وأنا أريد أن ارفض، لو كانت جلسة رجال لتفهموا، ولكنهن بالضرورة سيتفهمن العكس وتصبح فضيحتي في الجمالية والحمزاوي والحسين والتبليطة وحي الأزهر كله بجلاجل، تناولت البوصة وانا اقول
" ولو اني ما ليش في الحشيش بس ماقدرش اكسف ايدك"
بدات اسحب نفسا وراء الآخر، اشتعل الفحم، طقطق الحجر، امتلأ صدري بالدخان، ثم راسي بالحشيش، همست سندس وهي تميل نحوي
" اوعي تفتكر اننا نسوان شمال .. كل الحكاية اني بشوفك.. بس عدم اللامؤخذة ماينفعش أكلمك في التبليطة.. ولا اشرب معاك الشاي "
لحقتها ام مصطفي
" كل خميس بنتجمع هنا.. نشرب ونضحك.. ونروح مروقين بالنا .. الهم كتير"
وانسابت الحكايات من افواة الثلاثة، مرارات حارقة من أم مصطفي، هموم سندس، و نواح من المرأة البدينة، سندس تدخن بشراهه، تحكي عن خيباتها المتعددة، جريها علي اخوتها وجمالها الذي لا تراه الا ليلة الخميس مع امرأتان، قالت انها تتمني رجل في فراشها، نهرتها البدينة، وطلبت ام مصطفي أن تكمل فضفضتها، ضحكت سندس والحشيش يلعب براسها ورأسي، مالت اكثر نحوي، همست أنها تعرف جمالها ، ولكن كل الخطاب اما عاطل أو حشاش أو مسجل خطر، ادمعت عيناها وهي تنظر في عيناي مباشرة
" علشان كدة ماكنتش بابصلك .. ولا ينفع ابصلك .. فهمت ؟"