الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الشجرة الطيبة!


لا توجد تجربة في الحياة كلها شر.. وحملت محنة كورونا مع رياحها العاصفة بشائر خير وفوائد مثمرة.. وإذا كانت الظروف قد أجبرت الملايين على الالتزام بمنازلهم والتحصن وراء جدرانها من الخطر المجهول، فالفطنة تقتضى منا استثمار الفرصة وتحويلها إلى طاقة إيجابية لحين هدوء الأوضاع واستقامة الحياة الطبيعية.

صحيح أن الأزمة أصابت البيت المصرى بالشلل ووجهت ضربة قاسية لـ "عصب" الدخل المادى لكل أسرة، خصوصا تلك التى يعتمد عائلها على القوت اليومى وعرق الساعة، وتظل هذه الزاوية مرتبطة بمدى قدرة الدولة على تقليل خسائرها وبراعة الحكومة فى توفير البدائل أو تخفيف العبء بحزمة قرارات أو إجراءات.. أما إدارة البيت من الداخل فهى مسئولية رئيس جمهوريته "الأب" والسيدة الأولى "الأم" مع الشعب الصغير "الأبناء". 

وأتاحت "كورونا" المناخ المناسب لبقاء "دولة" الأسرة فى وطنها الدافئ لتتقارب العلاقات بين أفرادها ويستفيد الأب من مكوثه فى منزله وسط صغاره ليقضى معهم أحلى وأسعد الأوقات .. يلعب معهم ويهبط إلى مراحلهم العمرية لتتسع مساحة الألفة والتفاهم بينه وبين ورثته فى الحياة .. ويتبادل معهم الحديث عن مستقبلهم وأهدافهم ويفتح مجالا أوسع للنقاش والحوار الإنسانى .. يمارس بجوارهم الرياضة وتجدد الأسرة دماءها بتدريبات وألعاب بدنية بسيطة وغير مكلفة للتنفيس عن الطاقة وتنشيط خلايا الجسم وصفاء الذهن .. يجلسون معا حول الشاشة الصغيرة كوسيلة ترفيه وتثقيف لمشاهدة أفضل وأكثر المواد الإعلامية والأعمال الفنية متعة وتحفيزا للتفكير النقدى والتذوق الراقى، وبما يقطع الطريق على انخراط الأبناء فى النماذج الهابطة والنوعية الرديئة التى يجرى تسويقها على الفيسبوك واليوتيوب وتغزو العقول وتقودها فى الاتجاه التربوى الخاطئ!.

أغلقت "كورونا" أبواب الرزق مؤقتا، لكنها فتحت فى المقابل نافذة تطل منها العائلة على أحوالها وشئونها الداخلية، فتلتف أعضاؤها حول مائدة الإفطار والغذاء والعشاء يوميا لتتعمق الروابط وتلتقى الوجوه وتسعد النظرات برؤية أقرب الناس إليك بعد أن باعدت ضغوط الدراسة وتدريبات البطولات الخاصة بالأبناء بين أفراد الأسرة، وكثيرا ما كان يعود الأب إلى بيته وأطفاله نائمون وملامحه مجرد صورة فى ذاكرتهم!.

قد تكتشف موهبة ابنك أو ابنتك وتتفاعل معها لتروى هذه البذرة وتسعى لتنميتها لحين لحظة الخروج إلى العالم مرة أخرى لتشق طريقها تحت رعايتك .. قد تواظب على الصلاة فى ٥ لقاءات دورية مع المولى عزوجل وخلفك زوجتك وأولادك نحو المزيد من التقرب والتضرع إلى الخالق ليرفع عنا جميعا الوباء والبلاء، وقد تكون المحنة إشارة وشعاع ضوء لغرس "النبتة الصالحة" فى تربة التدين والتقوى وطهارة السلوك وبناء العلاقة السوية النقية مع رب العباد منذ الصغر!.

وبمقدورنا أن ننظر إلى المحنة باعتبارها "منحة" وهبنا إياها القدر لنتأمل فى سلوكياتنا وعاداتنا ونسير نحو التقويم المطلوب .. فننصرف عن إدمان متابعة الفيديوهات المستهلكة عن الطبخ والمحاكاة الساذجة والمهرجانات المبتذلة، لنتجه إلى أرفف مكتبة البيت لالتقاط خير صديق وطريق، وتستعيد العين "نعمة" القراءة والبحث والاطلاع لتسترد اللغة العربية عافيتها وينشط العقل بجرعات أكبر من المعرفة والثقافة .. والحظر فرصة لكى نرتشف جميعا من "عصير الكتب" الذى تربينا عليه ومنه خرجت أجيال ملأت الأرض خيرا وعمارا!.   
 
قد تتوطد العلاقة العاطفية بينك وبين شريك الحياة وتتطور المشاعر لتتجاوز مراحل التجميد التى شهدتها داخل "ثلاجة" المعيشة والروتين المعتاد .. ومن المحتمل أن "كورونا" قد أرادت من انتشارها فى الشوارع أن تدفع الأزواج إلى "العُش الهادئ" لإعادة ترتيبه وتنظيم أركانه، وليس كما تصدرها لنا تعليقات مواقع التواصل الاجتماعى من أن الوضع فرض حالة من الملل المتبادل بين الطرفين، وكل منهما ينتظر بفارغ الصبر لحظة الإفراج!.

وقد يستغل من بيننا الموقف لتحسين العلاقات بين الأخوة والأصدقاء .. وتذويب الخلافات بين الفرقاء .. وتوديع لحظات الخصام والغضب .. ورفع ترمومتر المحبة والوئام فى محيط الأهل والمعارف .. وبعد أن حاول المرض التفريق بين البشر، نجح الإنسان فى إفساد لعبته وتقلصت المسافات ليزداد المجتمع تماسكا وانضباطا .. ونظافة ونظاما فى كل شيء!.   

فى تقديرى أن ثمة مظاهر وأشياء أخرى يمكن أن يهتدى إليها تفكيرنا إذا تجاهلنا النصف الفارغ من الكوب، وتمسكنا بالنصف الممتلئ بمساحات الحب والعطاء والذكاء الاجتماعى .. ومن المؤكد أن لكل ما يحدث من حولنا الآن حكمته ودلالته .. فلماذا لانتحدى شبح "الفيروس الهش" ونتعامل معه كـ "شجرة طيبة" أصلها ثابت فى الأرض، وفروعها - بكل الثمار والفوائد - فى "سماء" كل بيت؟! 

              
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط