قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

د. محمد زيدان يكتب: اقرأ.. هل وضعت الإطار العام لمنظومة تعلم البشرية؟

د. محمد زيدان
د. محمد زيدان

بدأت أولى حروف الوحي الإلهي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تضع أولى الحقائق حول رسالته، في بداية، قوية آمرة مزلزلة ﴿اقْرَأْ﴾ يا محمد وتعلم، فإن علمك سيكون الهيًا بامتياز، لأن ربك هو من سيكون بنفسه معلمك ومصدر علمك، لذا قال الله ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ أي تعلم باسم الله وعلمه ووحيه إليك، منه مباشرة، فهو مصدر وأساس كل علم في الكون، فهو ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، خلق كل شيء، الذي خلق العلم وخلق المتعلم وخلق وسيلة التعلم، وخلق المنهج. وهو العالم بكل شؤون خلقه ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ الملك 14، وقال تعالى ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ يس (79).

اذًا حددت الآية الأولى من آيات الوحي أول عنصرين من عناصر المنظومة التعليمية الإلهية للبشرية، العنصر الأول هو المعلم، والمعلم هنا هو الله، كما وضحت العنصر الثاني، لماذا هو من يستحق أن يعلم؟ ببساطة لأنه مالك هذا الكون ﴿رَبِّكَ﴾ وهو ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، و﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ فاطر (14) .

تحدد الآية الثانية العنصرين الثالث والرابع من عناصر هذه المنظومة التعليمية، العنصر الثالث: المتعلم، وهو هنا الإنسان فقال ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾، كما حددت العنصر الرابع وهو الدافع والمحفز للتعلم ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾. تعالوا نحاول أن نفهم أولًا ما هو العلق ولنفهم لماذا كان هو الحافز والمحرك للتعلم.

تذكروا دائمًا بأنه في كتاب الله الكريم قد نجد للكلمة الواحدة، معنى قريب وأخر بعيد ، وآخر أبعد وهكذا ، أي أن بعض كلمات القرآن مرحلية الفهم، وكلما تقدمت البشرية وتعمقنا في الفهم، نكتشف من هذه المعاني الأبعد فالأبعد ، وهذا لا يعني عدم صحة المعنى القريب، بل يدل على مرحليته، ويدل على إعجاز القرآن، وصلاحيته لكل زمان ومكان، فكل منا يفهم الآيات حسب عصره وحسب أرضيتها المعرفية، لذلك عجائبه لا تنتهي.

وكلمة "عَلَقٌ" واحدة من هذه الكلمات المرحلية الفهم، فكلمة "علق" عبر المفسرون الأوائل بأنها "ما خلق منه الإنسان في بطن أمه" دون تحديد، وقالوا هو "الدم الجامد" ، وهم يشكرون على اجتهادهم لأن أرضيتهم المعرفية آنذاك لم تكن تسمح بأكثر من ذلك، ثم تطور العلم وعرفنا الآن بأن كلمة علقة هي أدق وصف للبويضة المخصبة أو الزيجوت Zygote التي تعلق بجدار الرحم لتبدأ في الانقسام وتكوين الجنين، لكن هذا أيضًا معنى قد يكون خاص جدًا للعَلَقٌ وقد يكون مرحليًا.

فالعَلَق لغةً هو كل ما عَلِقَ أو عُلِّقَ، أي تشابك وارتبط، ومنه كلمة عَلاقَة، وقالوا عَلِقَ بالشيء: اِسْتَمْسَكَ بِهِ، وعَلِقَ بِالْفَخِّ: وَقَعَ فِيهِ، وعَلِقَ بِحُبِّ شيء أو شخص : اِرْتَبَطَ بِحُبِّه وتمسك به وتَعَلَّقَ، وعَلِقَ حُبُّ الشيء بِقَلْبِهِ ، أو عَلِقَتْ فِكْرَةٌ بِذِهْن فلان وكَانَتْ شُغْلِه الشَّاغِلَ ، العجيب أن كل هذه المعاني تنطبق حرفيًا على الإنسان، أليس هو المتعلق المتمسك بالدنيا، وكل ما فيها، أليس هو العالق الواقع في شراك الشيطان، أليس هو المتعلق بحب الأشياء، أليست آلاف الأفكار متعلقة بفكره وتشغله دائمًا ، أليست حياته كلها من علق ، من مجموعة متشابكة جدًا من العلاقات والتعلقات ، أليست أجهزة جسمه وتركيبه ودمه وأنسجته وخلاياه ما هي إلا علاقات وتفاعلات وتداخلات كيميائية وحيوية وفيزيائية ، أليس تعلقه بكل شيء حياته وعمله واسرته وماضيه وحاضرة هو شغله الشاغل.

صدقت يا الهي لقد خلق الإنسان من عَلَق. ، ولأنه من علق ، فأصبح من الضروري له ومن المحتم عليه أن يتعلم، لكي يستطيع أن يتعامل مع هذا التشابك المخيف، ولكي يعرف كيف يفهم ويوظف هذا العلق من أجل أن بقائه وتطوره، ويفك أسرار هذا العلق وعلاقاته المتشابكة. وهو أيضًا متعلق بآلاف الأشياء التي يحاول جاهدًا أن يصل اليها بالعلم والتعلم. وهذا ما حدث فعلًا على مدار التاريخ، ولا يزال يحدث، وسيحدث الى يوم الدين، فالإنسان هو المتعلم الدائم، وسر رغبته في التعلم وحاجته الملحة له هو أنه خلق من علق.

إذا آيتان حتى الآن من سورة العلق تتكونان من 9 كلمات فقط لخصت لنا أربع عناصر رئيسة في المنظومة التعليمية الإلهية البشرية، منظومة ﴿اقْرَأْ﴾، حددت لنا المعلم ومصدر العلم ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، ولماذا هو المعلم؟، لأنه ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾، وحددت المتعلم ﴿خَلَقَ الإنسان)، وحددت الباعث على التعلم لأن الإنسان خلق ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾. إعجاز متناهي اليس كذلك؟

هنا أيضًا التفاته مهمة في موضع الفصل والنجمة بين الآيتين (لماذا قال الله تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ثم فاصلة، ثم ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾، ولماذا لم تكن مثلا اقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق، اليس القرآن مختصرًا ولا مكان فيه لحرف زائد؟، هذا إعجاز آخر. لو كانت كما تخيلتم، لاقتصر الإعجاز على خلق الإنسان، لكن الله خلق كل شيء فلذلك ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، أي خلق كل شيء أولًا، وهو بالإضافة الى ذلك ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾، هل اتضح المعنى؟

تعلمنا أن خلق الإنسان من علق، كان دافعًا قويًا له لأن يتعلم، وينهل من العلم الإلهي، هذا عن دافع المتعلم للتعلم، لكن ماذا عن دافع المعلم، فكما تقتضي المنظومة التعليمية بأنه يجب أن يكون للمتعلم هدف يحققه من التعلم، ويكون للمعلم هدف ليعلم، لكن المعلم هنا هو الله، والله لا يحتاج الى شيء أبدًا، إذا لماذا يعلمنا؟ ، هل تعرف لماذا؟ ، فقط لأنه الأكرم، ليس للمعلم هدف في منظومتنا هنا سوى أنه الأكرم وليس فقط كريم، لذا تفضل الله على محمد صلى الله عليه وسلم - وعلينا بسببه - بهذا العلم الإلهي كرمًا منه ليس إلا، فقال تعلم أيها الإنسان وأنا الأكرم لن أبخل عليك بعلم أبدا، وهذا ما تلخصه لنا الآية الثالثة ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)﴾ وكان هذا العنصر الخامس من المنظومة.

تعالوا الآن الى العنصر السادس من المنظومة التعليمية، وسيلة التعلم. وهذه واضحة تمامًا من الآية الرابعة قال الله تعالى ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (4)، إذا وسيلة التعليم هي القلم ، لكن كما هي القاعدة بأن الفهم مرحلي ، والفهم البعيد أو الأبعد لا يلغي الفهم القريب أو الأقرب بل يوسع دائرته ويثريه ، المعنى الأقرب للقلم هنا هو الأداة التي نستخدمها للكتابة ونعرفها جميعًا، وهذا يتفق مع سياقنا حتى الآن بأنه الوسيلة التعليمية ـ حيث قال معظم المفسرين الأوائل بأن علم بالقلم يعني "بالخط والكتابة "، لكن احتار بعضهم في كيفية وصف القلم، لأن الأمر هنا تعلق بالذات الإلهية ـ فقالوا إذًا هو قلم معنوي، وليس حسي.

تعالوا نحاول نحن التعمق في اللفظ، خاصة أن الحكم عام في الآية، لأن الله قال ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ وانتهت الآية أي أن الله علم كل متعلم بالقلم وليس الإنسان فقط، ثم قال ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) ﴾ في آية جديدة ، ولم يقل الذي علم الإنسان بالقلم ما لم يعلم، أي أن القلم هنا هو وسيلة التعليم للإنسان ولكل متعلم ، تعالوا نحاول ترتيل معنى القلم في التنزيل الحكيم لعلنا نجد ضالتنا .

ذكر القلم في القرآن 4 مرات، مره هنا في سورة العلق ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ العلق 4، وثلاث مرات أخريات، المرة التالية تتناسق مع المعنى الأقرب للقلم وهو أداة الكتابة المعروفة رغم كونه معنويًا وليس ماديًا ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ لقمان 27 ، فالقلم يصنع غالبًا من خشب الأشجار وخلافه. وذكر مرة أخرى في سورة القلم ﴿ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ﴾ القلم 1، والمعنى فيها يحتمل القلم الذي نعرفه أو غيره كما سنرى لاحقًا.

لكن تأتي أية آل عمران بمعنى جديد للقلم، وهو أداة تمييز وليس أداة خط وكتابة ﴿... وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ آل عمران 44 ، يلقون أقلامهم عند اجراء القرعة، أي أن كلًا منهم يضع شيئا مميزا له ، كأن يختار سهمًا أو قدحًا مميزًا له، أو أن يكتب عليه اسمه أو إشارة له تميزه، كما كانوا يفعلون قديمًا عند الاقتراع ، ليعرفوا من منهم أصاب سهمه. اذًا القلم هنا أداة تمييز وليس أداة كتابة، تعالوا أيضًا الى المعنى المعجمي، يقال قلمت الشيء: أي سويته وهذبته وأظهرت أصله، وقلمت الأشجار: أي أزلت الجاف والتالف منها فبان أصلهاـ وقلمت الظفر: أخذت ما طال منه. والإقليم: قطعة معروفة من الأرض، أي مميزة. ويقال قميص مقلم: أي مميز بخطوط.

هل ظهرت لكم الفكرة ـ لقد جعل الله القدرة على التمييز وإظهار أصول الأشياء وإزالة اللبس عنها هي وسيلة التعلم ، ولولا قدرتنا على تمييز الأشياء وتحديدها ما تعلمنا أي شيء ، وكل الكائنات أعطاها الله القدرة على التمييز حسب مستواها العقلي، فالقطة تميز أولادها وتقلمهم عن غيرهم، والأسد يميز فريسته ويقلمها عن غيرها، بل قد تفوق قدرة بعض الكائنات على التقليم قدرة الإنسان، فالكلب يقلم الروائح ويميزها بأضعاف قدرة الإنسان على ذلك ، إذا القلم والقدرة على التحديد والتمييز هي وسيلة التعلم التي أرادها الله لمخلوقاته . وفي الحديث الشريف أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: " (رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ"، أي يرفع القلم اذ فقد القدرة على التمييز.

بقي لنا عنصر واحد لتكتمل المنظومة بكل عناصرها، العنصر السابع، وهو ماذا نتعلم؟، ما هي مادة التعلم؟، ما هو المنهج الذي سنتعلمه؟، هذا ما وصفته الآية الخامسة ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)﴾، أي أن كل ما لا يعلمه الأنسان يصلح بأن يكون موضوعًا ومادة للتعلم، أرأيتم كرمًا من معلم أكثر من ذلك، لم يحدد الله سبحانه وتعالى مادة محددة كمنهج للتعلم، وإنما تركها مفتوحة، ولا حدود لها إلا حاجتنا وقدرتنا على التعلم، وأي شيء لا نعلمه. فعلًا ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾.

إذًا ، خمس آيات بدأت بهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، خمس آيات إعجازية تلخص لنا المنظومة التعليمية الإلهية للبشرية كاملة بكل عناصرها، ﴿اقْرَأْ﴾ يا محمد وتعلم ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ الذي هو مصدر العلم وهو المعلم ، لماذا؟ ، لأنه ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ خلق كل شيء ، وخلق المتعلم ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ﴾ وهو في حاجه ماسة ودائمة للتعلم فقد خُلِقَ ﴿مِنْ عَلَقٍ﴾ ، تعلم يا محمد و﴿اقْرَأْ﴾ فمعلمك هو الله ﴿وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ﴾ الذي سيعطيك العلم تكرمًا منه وتفضلًا، فهو الذي علم بأن أعطى مخلوقاته القدرة على الإدراك والتمييز وهو ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾، ولا حدود لهذا العلم فالمنهج هو كل ما لم يعلم الإنسان فهو الذي ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ .

أرأيتم مدى إعجاز سورة العلق ، وكيف أنها تستحق وبجدارة أن تكون بداية الوحي على خاتم الأنبياء ، النبي الذي ستسمر شريعته ومنهجه الى يوم الدين ، وما سيحدث للعالم من تطور علمي وتكنولوجي ، فقد أعطى الله للإنسان مفاتيح المعرفة في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يؤكد ما ذهبنا إليه في تفسير بداية السورة، هو كيف ستتابع السورة بعد هذه الآيات وصف ما سيحدث بعد أن يتعلم الإنسان ، وبعد أن ينعم الله بهذا العلم فقد أخبرنا الله بأنه سوف يطغى بعلمه ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى﴾ (6) بعد أن أعطاه الله بعضًا من هذا العلم، وظن أنه بهذا العلم بعد أن رآه واقعًا في حياته سيستغني عن ربه ﴿أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ (7) فيذكره الله بأنه ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ (8) وهكذا حتى نهاية السورة .