الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كَرِّموني في حياتي!


سمعت عنه حواديت ومواقف يومية داخل عيادته المتواضعة المفتوحة للفقراء المعدمين .. وتمنيت أن أتوجه إلى طنطا للقاء طبيب الغلابة الدكتور محمد المشالى وأقبل يديه ورأسه إجلالا لعرقه ومشقته ليلا ونهارا لتخفيف آلام المعذبين فى الأرض .. ومن أنا لأذهب إلى عيادة الطبيب الزاهد وأحييه على عظمة دوره فى تجسيد رسالة الطب بحذافيرها ودون نقصان؟! .. فالأولى أن تكون المبادرة بالزيارة من أكبر رأس فى الدولة تجلس مع فارس "البالطو الأبيض" الذى قضى عمره كله فى الوحدات الريفية و"مستوصف" الفلاحين والتزم داخل عيادته ذات الممر الضيق والمقاعد الجلدية السوداء وأكوام الكتب لعاشق القراءة والثقافة التى تغطى أركان حجرة الكشف الثمينة!.


ودار "المشالى" فى فلك صومعة الشفاء بسماعته الطبية وقيمة الكشف التى لم تتجاوز 10 جنيهات، وبلغت أقصاها 50 جنيها فى المنزل .. والكل تحدث وطاف بالحكايات عن خدماته الجليلة للأهالى دون انتظار تقدير أو شكر أو تكريم على أعلى مستوى .. ومات المشالى .. رحل عن عالمنا جثمانه مرصعا بملايين الدعوات وملفوفا بأكفان من المحبة والعرفان .. وتعالت الأصوات بالبكاء تارة، والتبجيل والتذكير بمشواره ومشروعه الإنسانى النبيلا تارة أخرى .. 


وكعادتنا مع العظماء .. العاملين فى صمت ورجال الأفعال دون أضواء أو صخب .. ودَّعنا "المشالى" وتشدقت وسائل التواصل الاجتماعى بالغناء والمديح والثناء على سخائه مع المرضى .. وأخيرا التفتت الدولة لساعة تكريمه وإطلاق اسمه على شارع عيادته أو بناء وحدة صحية مجانية بمثابة تمثال حى لروحه العطرة .. وهو على قيد الحياة، ويمارس مهمته المقدسة لم نسمع عن وسام استحقاق من الدرجة الأولى اعتلى صدره أسوة بالشهداء وجنود الواجب، ولا تخصيص منحة مريحة لدعم فكرته وخليته الطبية لتستمر فى عطائها وشرف أدائها!.


ومع انطفاء شمعة "المشالى"، توهجت شعلة البحث عن نماذج أخرى نجد فيها الملاذ وتعويض غياب طبيب الغلابة .. فكان دليلنا هو الدكتور عبد العزيز حامد وفا  المتخصص بمجال طب الأطفال والجلدية الذى وهب نفسه وعلمه وأعصابه منذ عام 1978 بكشف زهيد بلغ 25 قرشا، ثم 5 جنيهات وتوقفت "بنديرة" العداد عند هذا الرقم، وأنارت عيادته فى قلب العاصمة ضوء الأمل فى "طبيب" يعرف الله ويحترم ضميره ومهنيته، فاكتظت صالة الانتظار داخل عيادته بفئات مختلفة من طبقات المجتمع .. 


وقبل أن يفارق الحياة ليلحق بزميله فى الكفاح "المشالى" يوما ما، نتشوق إلى رؤيته وهو ينال ما يستحقه من التكريم والاهتمام .. وهو يصعد على المنصة وتتسلط عليه كاميرات الإعلام وتكتب عنه أقلام الصحف فى عبرة وعظة لأجيال وأبناء كليات الطب ومعاهد التمريض .. وهذه الكنوز الإنسانية من علمائنا وعقولنا أكبر فرصة لغرس قيم النبل ورسالة الطب فى نفوس النشء، وتكريم العباقرة وهم أحياء يمنح تلاميذهم التفاؤل والطاقة الكاملة لاستكمال المشوار والسباحة ضد التيار بصبر ومثابرة وشغف، والاقتداء بخير سلف لإنتاج خير خلف!.


إن من يعطى بزهد وأمانة ورضا لايتوقع المقابل ولا ينتظره لأنه يربح ما هو أكثر وأغلى من الخالق أولا ثم من احترام الآخرين والتاريخ .. ولكننا نحن من ينتظر التكريم فى لحظته وبلا تأخير أو غفلة، ليتجدد الخير، ويتدفق من رحم هذا الشعب "آلاف" الشباب من فصيلة "المشالى" أو أحفاد "وفا"، وتدريجيا يتم تعميم التجربة وتتعدد الوحدات الرحيمة والعيادات الفاخرة بأخلاقها وليس بأنوارها وحوائطها .. وكلنا نطمح ليوم تنتصر فيه الرسالة "البيضاء" على التجارة السوداء .. ويجب أن تكون "عيون" الدولة حارسة ويقظة لهذا المقصد، ولاينبغى أن يكون "قبر" الإنسان هو مسرح التتويج لأعماله .. وعظمته!.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط