الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

المستشار سُليمان عبدالغفار يَكْتُب: دُنْيا نَجيبْ مَحْفوظ.. صِراعِ الحياةِ والمَوْتْ

صدى البلد

في مَجْموعَتِهِ القَصَصَيِّة بِعُنْوانِ "دُنْيا الله" لَفَتَ نَظَري قِصَّة قَصيرة بِعُنْوانِ "الجامِعُ في الدَرْبْ" تَعَدَّدَتْ قِراءتي لَها مُتَأمِّلًا في مَغْزاها بِما فيها مِنْ خَيْرٍ أوْ شَرْ – فَبِناءِ الجامِع يَقومُ عِنْدَ مُلْتَقى دَرْبَيْن مِنْ دُروبِ الفَساد. في ظِلِّ هذا الفَسادِ المُحيطِ بِالْمَسْجِدِ مِنْ كافَّة نواحيه، لَمْ يَجِدْ إمامَهُ "الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ" مُسْتَمِعًا لِدَرْسِهِ بَعْد صَلاةِ العَصْر سوى صاحِب مَحَلِّ العَصير – لِهَذا دأَبَ المؤَذِّن والخادِم الإنْضِمام إلى الرَجُلِ الذي يواظِبُ على دَرْسِ العَصْر – احْتِرامًا لِلدَرْسِ ومُجامَلةً لِلإمام الذي كانَ يَوْمَ نَقْلِهِ إلى هَذا الجامِع مِنْ أصْعَبِ أيَّام حياتِهْ – وقَدِ اضْطَرَتْهُ ظُروفِ المَعيشة إلى تَنْفيذِ قَرارِ النَقْل رَغْمًا عَنْهُ، وقَدْ لاقى بِسَبَبْ ذَلِكْ مِنْ تَهَكُّمِ الخُصوم ومُزاحِ الأصْدِقاء، حَتَّى أنَّهُ لَبِثَ أيَّامًا طَويلة يَشْعُرُ بِالفَزَعِ كُلَّما امْتَدَّ بَصَرَهُ إلى داخِلْ هَذا الدَرْبِ أو ذاك – فَكانَ وكأْنَّما يَخْشى إذا تَنَفَّسَ أنْ تَتَسَرَّبْ إلى صَدْرِهِ جَراثيمِ الفُجور التي تَمْلأِ المَكان.

في أحَدِ الأيَّام تَمَّ اسْتِدْعاء "الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ" بِإشارَةٍ تِليفونية لِمُقابلةِ المُراقِبِ العامْ بِالوزارة – تَبَيَّنَ فيما بَعْد أنَّها دَعْوة عامَّة لِأئِمَّةِ المَساجِد – في مَوْعِدِ الاجْتِماعِ تَمَّ الإذْن لِلدُّعاة بِالدُّخول، اسْتَقْبَلَهُم المُراقِبُ بِوَجْهٍ وَقور يَشِّعُ رَهْبَة لِتَنْهالَ عَلَيْهِ مَقْطوعاتِ المَديح بَيْنَما يُداري ابْتِسامةً غامِضة – وبَعْدَ أنْ سادَ الصَمْتُ، اشْتَدَّ تَطَلُّعِ الحاضِرين وهوَ يُقَلِّبُ عَيْنَيْهِ في الوُجوه، ليُعْلِنَ أنَّ ثِقَتَهُ أنَّهُم سَيَكونون عِنْدَ حُسْنِ الظَنِّ بِهِمْ – مُشيرًا إلى صورة المَلِكِ المُعَلَّقة فَوْقَ رأْسِهِ ليَقولْ: واجِبُنا نَحْوَهُ ونَحْو أُسْرَتِهِ العَريقة هوَ ما دَعا إلى هذا الاجْتِماع – انْقَبَضَتْ صُدورٍ كَثيرة دونَ أنْ يُزايِلُ البِشْرُ وُجوهِ أصْحابِها – وأضافَ المُراقِبِ العام يَقولْ: إنَّ العِلاقة التي تَرْبُطَكُمْ بِهِ فَوْقَ الكَلام – إنَّها مَوَدَّة تاريخية مُتَبادِلة !؟!... ثُمَّ دَعاهُم إلى تَبْصيرِ الشَعْبِ بِالحَقائِقْ، وهَتْكْ أسْتارِ مُثيري الشَغَبْ والدَجَّالين كَي يَسْتَقِرَّ الأمْر لِصاحِبِ الأمْر – فَرُبَّما كانَ هوَ الخَليفة المُنْتَظَر !؟! – وبَعْدَ أنْ صَالَ المُراقِب وجَال – غَشِيَ الصَمْتُ المَكان – فانْبَرَى أحَدِ الأئِمَّة ليُؤَكِّدَ أنَّ المُراقِبْ أفْصَحَ عَنْ مَكْنونِ القُلوب، وأنَّهُ لَوْلا الخَوْف مِنْ خَرْقِ التَعْليماتْ لَسارَعوا مِنْ أنْفُسِهِم إلى ما دَعاهُم إليْهِ مِنْ واجِبْ !؟! – فانْجابَ القَلَقُ عَنِ "الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ" وأدْرَكَ أنَّهُ لَمْ يَتِمَّ اسْتِدْعائَهُمْ لأيِّ نَوْعٍ مِنَ المُحاسَبة أوِ التَحْقيق – بَلْ إنَّ السُلْطة تَسْعى إليْهِمْ هَذِهِ المَرَّة، ورُبَّما أدَّى ذَلِكَ إلى تَحْسينِ أحْوالِهِم فيما يَتَعَلَّق بِالمُرَتَّبات والمَعاشات – غَيْرَ أنَّهُ سُرْعان ما ارْتَدَّ إليْهِ القَلَق مِنْ جَديد بَعْدَ أنْ أدْرَكَ بِوُضوح ما يُرادُ بِهِم، وما سَوْفَ يَجِدْ نَفْسَهُ مُضْطَرًَّا إلى قَوْلِهِ في خُطْبَةِ الجُمُعة مِمَّا يأْباهُ ضَميرَهُ ويَمْقُتُهُ النَّاس !؟! – ولَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أدْنى شَكْ في أنَّ الكَثير يُشارِكونَهُ مَشاعِرَهُ ويُعانونَ أزْمَتَهُ – بَيْنَما يَبْدو السَبيل مَسْدودًا في وَجْهِ الجَميع – وعادَ إلى الجامِع وفِكْرُهُ مَشْغولٌ فيما اسْتَجَدَّ مِنْ هُمومْ...!؟!. 

بَعْدَ صَلاةِ العِشاء زارَ "الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ" إمامان مِنْ زُمَلاءِ الدِراسة – جَلَسا إلى جانِبِهِ مُتجَهِّمين ليُخْبِراهُ أنَّ بَعْضَ الأئِمَّة تَمَّ فَصْلَهُم مِنْ وَظائِفِهِم لِامْتِناعِهِم عَنِ المُشارَكة في الحَمْلة الدَعائية المُدَبَّرة لِتَحْسين صورة ولِيِّ الأمْر !؟! – بادَرَ أحَدَهُما إلى القَوْل: لَمْ تُخْلَقْ دورِ العِبادة للمُهاتَرات السياسية وتأْييدالطُغاة – أجابَهُ الشيخ عَبْدِ رَبُّهْ صاحِبَهُ مُتَسائِلًا: أتُريدُ أنْ تَتَضَوَّر جوعًا ؟! – وأرْدَفَ يَقولُ – رُبَّما ما يَظُنُّهُ البَعْضُ مُهاتَرات !؟! قَدْ يَكونُ الحَقُّ بِعَيْنِهِ – فانْدَفَعَ الزَميلُ الآخَر موَجِّهًا حَديثَهُ إليْه – أتُريدُ أنْ تَقْتُلْ مَبْدأً إسْلاميًا – هوَ الأمْرُ بِالمَعْروفِ والنَهيِ عَنِ المُنْكَر ...!؟! – رَدَّ عَليْهِ الشَيخ عَبْدِ رَبُّهْ بِغَضَبِ لا يَخْتَلِفُ عَنْ غَضَبْ ضَميرَهُ الذي يُعَذِّبَهُ – وقالَ – بَلْ إنَّنا سَنُحْيي مَبْدَأْ إسْلامي هوَ الدَعْوَة إلى طاعة الله ورَسولَهُ وأُولي الأمْر ...!؟! – فَتَساءَلْ الزَميل بِاسْتِنْكارٍ شَديد: أهَؤلاء مَنْ يُعِدُّهُم أُولي الأمْر ؟!؟ – فَتَحَدَّاهُ عَبْدِ رَبُّهْ – مُتَسائِلًا بِدَوْرِهِ – هَلْ سَتَمْتَنِعْ عَنْ إلْقاءِ الخُطْبَة ؟!؟ – فَلَمْ يَرُدّْ عَلَيْهِ زَميلَهُ وقامَ ساخِطًا ليُغادِرَ المَكان – ومالَبِثَ أنْ غادَرَهُ الزَميلِ الآخَرْ دونَ اسْتِئْذان !؟! – فَلَعَنَهُما الشَيْخ مِثْلَما يَلْعَنُ نَفْسَهُ الثائِرة ...!؟!.

كانَ اليَوْمِ التالي هوَ الجُمْعَة – ولَمَّا حانَ وَقْتِ الصَلاة وازْدَحَمَ الجامِع بِالمُصَلِّين على غَيْرِ المأْلوف باقي أيَّامِ الأُسْبوع – إذْ أنَّ صَلاة الجُمُعة تَجْذِبُ إليْهِ أُناسًا مِنَ الأطْرافِ البَعيدة – وما إنْ وَقَفَ الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ لِإلْقاءِ الخُطْبَة حَتَّى فوجِئَ المُصَلُّون بِحَديثٍ في السياسة – مُفاجأة لَمْ تَكُنْ تَخْطُرْ لَهُم على بال !؟! – وتَلَقَّتْ آذانِهِم الجُمَلِ المَسْجوعة عَنِ الطاعة وواجِبِ الوَلاء لِوَلِيِّ الأمْربِتَمَلْمُل وارْتياب وحُنْقْ – وعِنْدَما هاجَمَ في خُطْبَتِهِ الذينَ يَدْعونَ الشَعْب إلى التَمَرُّد – حَتَّى سَرَتْ في الجامِعِ أصْواتِ احْتِجاجٍ وسُخْطْ، بَلْ إنَّ البَعْض اعتَرَضَ بِاصْواتٍ مُرْتَفِعة – بَيْنَما قامَ آخَرون بِتَوْجيهِ السُباب إلى الإمام !؟! – بَعْدَها إنْقَضَّ المُخْبِرونَ المُنْدَسُّون بَيْنَ المُصَلِّين على غُلاةِ المُعارِضين وساقوهُم إلى الخارِج وَسَطْ ضَجَّة هائِلة مِنَ الرَفْضِ والغَضَب – وغادَرَ الجامِعَ كَثيرون، لَكِنِ الإمام دَعا الباقينَ إلى الصَلاة – وكانَتْ صَلاة حَزينة تَغَشَّاها الكآبة !؟! – في أثْناءِ ذَلِكْ كانَتْ حُجْرَة بِالبَيْتِ المُجاوِر لِلجامِعِ تَضُمُّ واحِدة مِنْ بائِعاتِ الهَوى وأَحَدِ الزَبائِن – الذي راحَ يَسْألُها في امْتعاض – لِماذا يُقيمونَ جامِعًا في هذا المَكان – هَلْ ضاقَتِ الدُّنْيا بِهِمْ ؟!؟ – فأجابَتْهُ واثِقة – هذا المَكان مِنَ الدُّنْيا مِثْلَ بَقيَّةِ الأماكِنْ !؟!... وبَعْدَ أنْ صَبَّ كأْسَهُ الذي أمامَهُ في جَوْفِهِ – تَفَحَّصَ وَجْهِها بِبَصَرِهِ وهوَ يَقولْ – ألاَ تَخافينَ الله ؟!؟ – أجابَتْهُ بِقَوْلِها – رَبِّنا يَتوب عَلينا ...!؟! – في تِلْكَ اللحْظة كانَ الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ يُلْقي خُطْبَتَهُ – فَمَضى يُتابِعَهُ بِرأسٍ مُتأرْجِح – ثُمَّ ابْتَسَمَ ساخِرًا وهوَ يَقول – اسْمَعي ما يَقولُهُ المُنافِق !؟! – وراحَتْ عَيْناهُ تَجُولُ في الحُجْرَة حَتَّى اسْتَقَرَّتا على صورَةٍ باهِتة لِسَعْدِ زَغْلول – فَسألَها وهو يُشيرُ إلى الصورة – هَلْ تَعْرِفينَ هَذا ؟!؟ – قالَتْ ومَنْ لا يَعْرِفَهُ !؟! – أفْرَغَ بَقيَّة الزُجاجة في حَلْقِهِ المُلْتَهِب – وأَخَذَ يُرَدِّدُ بِلِسانٍ ثَقيل ... غانية وَطَنية...!؟! – وشَيْخٌ مُنافِق ...!؟!.

عِنْدَ الفَجْر صَعَدَ المؤّذِّن أعْلى المَئْذَنة ليؤَذِّن لِلصَلاة – وقَبْلَ أنْ يَبْدأ انْطَلَقَتْ "صَفَّارةِ الإنْذار" في عوائِها المُتَقَطِّعِ الرَهيب، وإذا بِانْفِجار يُدَّوي مُرْعِدًا ارْتَجَّتْ لَهُ الأرْض – فَغاضى صَوْتَهُ في أعْماقِهِ وتَجَمَّد في مَكانِهِ مُحَلِّقًا في الأُفُقِ الرَهيب حَيْثُ لاحَ لَهيبٌ أحْمَرْ – ثُمَّ تَراجَعَ إلى البابِ ليَهْبِط سُلَّمِ المَئْذَنة مُقْتَلِعًا قَدَميْهِ بِصُعوبة، وما إنْ بَلَغَ أرْضِ الجامِع الذي غَرَقَ في ظَلامٍ دامِسْ. حَتَّى اتَّجَهَ نَحْوَ الإمام والخادِم مُسْتَدِلًَّا عَلَيْهِما بِصَوْتِهِما يَتَهامَسان – ثُمَّ قالَ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجْ – غارةً جَديدة يا جَماعة -ماالعَمَلْ ؟!؟ – قالَ الإمام بِنَبْرَةٍ مَبْحوحة – المَخْبأِ بَعيد – ولَعَلَّهُ مُكْتَظِّ الآن بِالنَّاس، والجامِعِ مَتينِ البُنْيان وهوَ خَيْرُ مَلْجأْ – جَلَسوا في رُكْنٍ وسُرْعان ما انْطَلَقَتْ أفْواهِهِمْ بِالتِلاوة – وما هي إلَّا لَحَظاتْ حَتَّى تَرامَتْ إلى أسْماعِهِم أصْواتٍ شَتَّى مِنَ الخارِج، وَوَقَعَ أقْدام ونِداءات وصَيْحات مُضْطَرِبة !؟! – ومَرَّةً أُخْرى إنْصَبَّتْ على الأرْضِ قَذائِف مُتَلاحِقة فَزَلْزَلَتْ الأعْصاب!؟!... وفَجْأة انْدَفَعَتْ مَجْموعة مِنَ النَّاس أغْلَبَهُم مِنَ المُقيمين في الدَرْبين اللذانِ يُحيطانِ بِالجامِعِ أوْ مِنْ الزَبائِنِ الزائِرين – وأخَذَ بَعْضَهُم يَقول – هذا مَكانٌ آمِنْ – فانْقَبَضَ قَلْبُ الإمام أكْثَرْ عِنْدَما جاءَتْ جماعة جَديدة أكْبَرْ مِنَ الأوْلَى – ونَدَتْ عَنْها أصواتْ نِسائية لَيْسَتْ غَريبة على الشَيْخ !؟! – وهَتَفَ صَوْتٌ يَقول: لَقَدْ طارَتْ الخَمْرُ مِنَ رَأْسي، هُنا أفَلَتْ زِمامُ الإمام – فَهَبَّ واقِفًا يَصيحُ بِعَصَبيَّة: اذْهَبوا إلى المَخْبأْ – احْتَرِموا بيوتَ الله !؟! – اذْهَبوا جَميعًا – فَصاحَ بِهِ رَجُلْ – اسْكُتْ يا سيِّدَنا، ثُمَّ ارْتَفَعَتْ ضِحْكَة ساخِرة !؟! – غَيْرَ أنَّ انْفِجارًا شَديدًا دَوَّى في تِلْك اللَحْظة يَصُكُّ الآذان – فَضَجَّ الجامِع بِالصُراخْ، وامْتَلَأَ الإمام رُعْبًا !؟! جَعَلَهُ يصيحُ بِجُنون – كأنَّما يُخاطِبُ القَنابِلُ نَفْسَها – إذْهَبوا لاتُدَنِّسوا بيوتِ الله – إذْهَبوا عَلَيْكُم لَعْنَةُ الله !؟! – فَهَتَفَتْ امراةٌ قائِلة: إنَّهُ بَيْتُ الله لا بَيْتَ أبيكْ – وبَعْدُها انْتَشَرَتْ التَعْليقاتِ الحادَّة والسخرياتِ اللاذِعة!؟! – حَتَّى هَمَسَ المؤَذِّنْ في أُذُنِ الإمام – أسْتَحْلِفُكَ بِالله أنْ تَسْكُتْ – فَقالَ الشَيْخُ عَبْدِ رَبُّهْ بِتَعَثُّر مَنْ يَجِدُ مَشَقَّة في النُطْق – أتَرْضى أنْ يَكونَ الجامِع مأْوى هؤلاء !؟!.

...اسْتَمَرَّ المؤَذِّنْ في مُحاوَلَتِهِ إقْناعِ الإمام وهوَ يَتَوَسَّلْ إليْهِ بِقَوْلِهِ – أنَّ الدَرْبَ مُتَهالِكْ وبيوتَهُ هاوية، وأنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِم غَيْرِ الجامِع ليلجَأوا إليْه !؟! – فَضَرَبَ الإمام راحَتَهُ بِقَبْضَتِهِ – وقالَ – هَيْهات أنْ يَرْتاحَ قَلْبي لِاجْتِماعِ كُلِّ هؤلاءِ الأشْرار في مَكانٍ واحِد!؟! – إنَّ الله لا يَجْمَعَهُم في مَكانٍ واحِد إلَّا لِأَمْر ؟!؟ – وانْفَجَرَتْ قَنْبُلة أُخْرى، التمع لَها بَريقٌ خاطِف في فَراغِ الجامِع – كَشَفَ عَنْ أشْباحِ مَنْ لَجَأوا إلى الجامِع وهُمْ يَرْتَعِدون قَبْلَ أنْ تَبْتَلِعَها الظُلْمة العَمْياء مَرَّةً أُخْرى – فأطْلَقَتْ الحَناجِر عِواءً مُفْزِعًا، والنِساء تَصْرُخْ وتولْولْ !؟! – حَتَّى أنَّ الشيخ عَبْدِ رَبُّهْ نَفْسَهُ صَرَخ وهوَ لا يَدْري!؟! – وتَطايَرَتْ أعصابَهُ فانْدَفَعَ يُهَرْوِلْ نَحْوَ باب الجامِع – وجَرى خادِمُ المَسْجِد خَلْقَهُ يُحاوِلُ مَنْعَهُ مِنَ الخُروج – لَكِنَّهُ دَفَعَهُ بِقوَّةٍ مُتَشَنِّجة وهوَ يَصيحُ في المؤَذِّنِ والخادِم – اتْبعاني قَبْلَ أنْ تَهْلَكا – لَمْ يَجْمَعُ الله هؤلاء في مَكانٍ واحِدٍ إلَّا لِأمْر!؟! – ومَضى مُهَرْوِلًا يَخوضُ ظَلامًا دامِسًا. اسْتَمَرَّتِ الغارة بَعْدَ ذَلِكْ عشر دَقائِق تَساقَطَتْ في أثْنائِها أرْبَع قَنابِل – وشَمَلَ الصَمْتُ المَدينة مِقْدار رُبْع ساعة أُخْرى، ثُمَّ انْطَلَقَتْ صُفَّارَةِ الأمان!؟! – وقَضَتِ الظُلْمَة روَيْدًا أمامَ البُكور ... و بَدَتْ طَلائِعِ الصَباح في مِثْلِ حَلاوَةِ النَجاة – لَكِنَّ الشَيْخ عَبْدِ رَبُّهْ لَمْ يَعْثُرْ لَهُ على أثَرْ – إنَّما تَمَّ العُثور على جُثَّتِهِ عِنْدَ الشُروق ...!؟!.

تَوَقَّفْتُ أمام هذهِ القِصَّة القَصيرة المَشْحونة بِالدَلالات – وقَدْ أبْدَعَها أديبَنا الكَبير في عَدَدٍ قَليل مِنَ الصَفَحات – أتأمَّلُ ما احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ رؤى وأفْكارٍ تَموجُ بِها دُنْيا النَّاس، في صِراعِ الإنْسان بَيْنَ الخَيْرِ والشَرْ، ومُداهَمَة المَوْتِ، والتَشَبُّثْ بِالحياة ...!؟! – فَمَنْ يَقْطُنونَ الدَرْبِ، ويُحاصِرونَ "الجامِعْ" بِكُلِّ أنْواعِ الموبِقاتْ – ولا يَلْتَفِتونَ إلِيْهِ أو يُعيرونَهُ اهْتِمامًا يُذْكَرْ – وكأنَّهُ لا وُجودَ لَهُ في حياتِهِم – وعِنْدَما فاجأتْهُم الكارِثة – لَمْ يَجِدوا أمامَهُم غَيْرَهُ يَلوذونَ بِهِ – وقَدْ ضاقَتْ بِهِمُ السُبُلْ في فِرارِهِم مِنَ الهَلاكِ طالِبين النَجاة !؟! – وعِنْدَما يَرْفُضُ إمامُ الجامِع لُجوءِهِم إليْهِ – مُتَوَجِّسًا الشُرور مِنْ وجودِهِم فيهِ مُجْتَمِعين !؟! – وبَعْدَ فَشَلِهِ في إخْراجِهِمْ مِنْهُ لغَلَبَتِهِم عَلَيْهِ – يُبادِرُ هوَ إلى الفِرار، مُتَخَيِّلًا أنَّ الله سَوْفَ يُنْزِلُ بِهِمُ العِقاب لِفُجورِهِم الظاهِرْ لِلعَيان ولِجَرْأتِهِم على اقْتِحامِ بَيْتِ الله ...؟!؟... وتَتَّضِحُ المُفارَقة بِأنَّهُ قَدْ كُتِبَتْ لَهُمُ الحياة – وقَدْ تَحَصَّنوا بِبَيْتِ الله الذي لا يَرْفُضُ مِنْ يَطْرِقُ بابَهُ ...!؟! – بَيْنَما يَلْقَى الإمام مَصْرَعَهُ رافِضًا الاسْتِماعِ لِصَوْتِ العَقْلِ والضَمير – في نَصيحةِ المؤَذِّنَ لَهُ بِأنْ يَتْرُكَهُم بِالجامِع، لَأنَّهُ لَيْسَ أمامَهُم غَيْرَهُ، وقَدْ صارَتْ حياتَهُم آيلة لِلسُّقوطِ في ذَلِكَ الدَرْبِ المُتَداعي الجُدْران – بِإصْرارِهِ على الفَرار وقَدْ تَمَلَّكَهُ اليأْس والضَجَرْ – رَغْمَ أنَّهُ كانَ حَريص كُلِّ الحَرْص على الحياة !؟! – فيالَها مِنْ دُنْيا تَزْخَرُ بِالمُتَناقِضات – فَجامِعُ العِبادة يُجاوِرُ دَرْبَ الفَسادْ !؟! – تِلْكَ هيَ حَقيقةِ الصِراع الأبَدي بَيْنَهُما مُنْذُ بِدايةِ الخَليقة – في كُلِّ زَمانٍ ومَكانْ !؟! – فالحَقُّ والباطِل مُتَجاوِران بَلْ ومُتَدَخِلان في كافَّة شُئونِ الحياة ...!؟!.

ويَذْهَبُ "نَجيبْ مَحْفوظْ" صاحِبَ الرؤْية والبَصيرة – إلى أنَّ مَصيرِ الإنْسانِ يَحْكُمُهُ اخْتيارِهِ في نِهايةِ المَطاف !؟!... فَهَذا "إمام الجامِع" الذي هوَ عُنوانِ التَقْوى والصَلاحْ، يُبيحُ لِنَفْسِهِ الرياء في تَطَلُّعِهِ إلى الحياة الرغْدة، إذا ما تَزَلَّف لِأولي الأمْرِ وامْتَدَحَهُم رَغْمَ الإجْماعِ على فَسادِهِم !؟!... بَيْنَما تَرْنو المَرْأة الغارِقة في الرَذيلة إلى التَوْبَة، وتَهْفو نَفْسَها إلى الخَلاص مِنْ حياةِ الدَنَسْ التي سَئِمَتْها – ورُبَّما كانَ لُجوءِ أهْلِ الدَرْبِ إلى الجامِعِ عِنْدَما حانَ وَقْت الخَطَر بادِرة أمَلْ لاحَتْ أمامَهُم لِلنَجاة – إنَّ خَلُصَتْ نواياهُم – وقَدْ ضَلُّوا طَريقِ الحياة !؟!...!؟!... فيالَهُ مِنْ خيارٍ بَيْنَ "التَقْوى وهَوى النَفْس" !؟! – لِنُدْرِكَ أنَّ "جامِعِ الهِداية" و"دَرْبِ الغواية" يَتَصارَعان داخِلَ كُلِّ إنْسان ...!؟! – وما عَلَيْهِ سِوى أنْ يَخْتارَ بَيْنَ الهُدَى والضَلالْ ...!؟!.