الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الجنة عند صديقين: نيجيري ونمساوي!


منذ أكثر من ربع قرن، وذلك حينما حملت حقائبي طائرا عابرا بحر الروم، هابطا في إحدى دول أوروبا الوسطى، على وجه التحديد في دولة النمسا الجميلة الفاتنة، كان أول ما لفت انتباهي، هي الثلوج التي تغطي سلسلة الجبال الممتدة على جانبي الطريق الذي كان يجب عليّ أن أقطع منه حوالي مئتي كيلومتر حتى أصل إلى المدينة التي سوف أستقر بها حتى اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال.


إذًا نستطيع الآن أن نلمح أول اختلاف بين الوطن الذي غادرته للتو، والوطن الجديد الذي يستقبلني، وهو اختلاف في الظواهر: بيئي مناخي: حيث لا وجود في البيئة التي غادرتها لجبال ولا مرتفعات، ولا تساقط للثلوج بها.


أما الاختلافات الأخرى فكانت في السلوك والثقافة، فلم أكن في حاجة لتدقيق نظر لألحظ هذا الالتزام "الصارم" - إن جاز الوصف - الذي يفرضه على نفسه - بعدما تدرب عليه تدريبا قاسيا ليصبح مع الوقت عادة مغروسة في النفس - المواطن النمساوي، ولفت انتباهي هذا الاهتمام بالطبيعة: نباتيا وحيوانيا، فكانت الزهور لا تملأ الحدائق فحسب، بل هناك العديد من الشوارع الداخلية تحرص البلدية على تزينها بأحواض ورود ممتدة على مدى الشارع، ووجدت - على سبيل المثال- حفاظا على حياة الثعابين التي تصاحب الخضرة وتظهر في فصل الصيف المطير، فلم يكن مسموحا بقتلها، حفاظا على التوازن البيئي، ليس ذلك فحسب، بل رأيت النمساويين يحملون أكياسا من الخبز المتبقي لديهم ويقفون على شط النهر الصغير الذي يخترق المدينة ليطعموا به أسماك ذلك النهر الممنوع صيدها، أما الطيور كالعصافير والحمام وغيرهما، فيقيم النمساويون أقفاصا في الجبال يضعون فيها الحُبوب والمياه لتلتقطها وتشرب منها هذه الطيور.


وإن كان ما سبق قد لفت انتباهي بدرجات متفاوتة، فإن ما أدهشني، بعد أن أنوه هنا على انتشار ظاهرة حرص العديد من أبناء الشعب النمساوي على إناء الحيوانات الأليفة بالمنزل، كانت مداعبة تجمع الكلاب بالقطط في النوافذ، ذلك الذي تعجبت له أيما تعجب، حيث نضرب المثل في العداوة بالكلب والقطة، كما بالقط والفأر، فكيف نُزِعَ ما بينهم من عداوة وبغضاء؟! هذا الذي كان يذكر على المنابر عندنا أنه سيحدث فقط في الجنة!

في السياق:
وبمناسبة الجنة، أذكر ما دار بيني وبين صديقي النيجيري "برنس"، اسمه كذلك، وكان زميلا في العمل، وكان يزورنا في نهاية الأسبوع فيقضي معنا عدة ساعات، كنت أصلي في حضوره، وكان يعرف صلاتنا، ويعلم أنني مسلم، وكنت أظن، دون أن أسأله، أنه مسيحي، حيث أنه لو كان من مسلمي نيجيريا لصلى معنا حينما كانت يحين وقت الصلاة ونقوم لأدائها، ولكنه لم يكن مسيحيا، بل كان ملحدا، لا يؤمن بوجود الله، كما ذكر لي، وبالتالي لا يؤمن بجنة أو نار، وقال لي ذات مرة ضاحكا: صديقي، هنا، في النمسا وفي أوروبا توجد الجنة، وهناك، عندنا في نيجيريا وأفريقيا، توجد النار.


أما صديقي النمساوي كالوتسا فكان يرى أن الجنة جاء وصفها على شكل حديقة، لأن الدين قد ظهر في بيئة صحراوية، فكانت للحديقة بالنسبة لمن يعيشون في هذه البيئة الصحراوية مكانة هائلة في النفس، ذلك الذي دفعني لسؤاله: فماذا لو تخيلت أنت الجنة كصورة تقريبية؟ حيث إن الجنة الحقيقية فيها ما لا عين رأيت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن ما يُذكر ليس إلا صورة تقريبية للذهن البشري في الأرض، فكانت إجابته: نعم سيكون فيها الأنهار والأشجار والخضرة والورود، ولكن أيضا لابد أن يوجد فيها الصخور بألوانها الفاتنة الجميلة والصحراء برمالها الذهبية المبهرة، والبحار الواسعة والشواطئ الممتدة، وغير ذلك من جمال مختلف نشاهده في جميع البيئات وكل القارات.


نعود إلى تلك المداعبة بين الكلاب والقطط في نوافذ الشقق، وإلى هذا السؤال كيف نزعت تلك العداوة والبغضاء بينهما؟ وفي محاولتنا للإجابة عنه يسعفنا هنا الكاتب الأمريكي "مارك توين" في كتابه الصغير الحجم الخطير المعنى "الجنس البشري الملعون" والذي جهّز فيه قفصين كبيرين، في حكاية متخيلة، وضع في أحدهما مجموعة من الحيوانات، بعدما علمهم معنى الصداقة، ووضع في الآخر مجموعة من البشر، علمهم أيضا معنى الصداقة والتسامح والتعايش، وكان هؤلاء البشر ينتمون لعقائد مختلفة، وكلّف أن يوضع لكل من في القفصين الكبيرين الطعام المناسب طوال الوقت والمياه اللازمة، وكل ما يُحتاج إليه، وعاد بعد فترة زمنية ليرى ما حدث في القفصين، فوجد الحيوانات تعيش مع بعضها البعض، ولم يصب أحدهم الآخر بسوء، عكس القفص الذي كان فيه البشر الذين كان منهم المسيحي الكاثوليكي والأرزارزاكوسي والبروتستانتي، واليهودي والمسلم والبوذي والهندوسي، فوجدهم جميعا قد أصبحوا أشلاء حيث مزقوا أجساد بعضهم بعضا لأنهم لم يقبل أحدهم فكر وقناعات وعقائد الآخر، أما الحيوانات فلأن كل منهم حصل على ما يحتاجه من المأكل، فلم يكن لديه سبب للاعتداء على أخيه من الحيوانات الأخرى الموجودة معه في نفس القفص.


هذا الذي يفسر مشهد مداعبة الكلب للقطة التي تعيش معه تحت سقف واحد ويتم توفير الطعام لكل منهما، عكس الإنسان الذي رغم حصوله على ما يحتاجه من مأكل ومشرب، فإنه أبى إلا أن يقتل أخيه الإنسان لأنه لا ينتمي إلى نفس عقيدته. 
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط