الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

جمال حمدان «راهب العلم».. عاشق مصر


مصر أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة مصر كما عبر عنها د.جمال حمدان هي قدس أقداس السياسة العالمية والجغرافيا السياسية.
 
جمال حمدان من الاستثناءات العربية القليلة في تأسيس موقعٍ فاعل للجغرافيا في الثقافة العربية والفكر الإستراتيجي فلم تكن الجغرافيا لدية إلا رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية فلكل تكوين جغرافي تكوين بشرى وحضاري وعوامل قوة وضعف تضعها  في سياق أعم وأشمل له ما بعده.

فقد امتلك حمدان رؤية فريدة جعلته يربط ذلك العلم الحائر علم الجغرافيا كما كان يطلق عليه وبين مختلف علوم المعرفة فعلم الجغرافيا عند حمدان لايقف على حدود الموقع والتضاريس وإنما هو علم يمزج بين العلوم المختلفة ويتجاوزه منطلقا بمعطياته الجافة  إلى التحليل والتفسير والربط بالتاريخ والأحداث واستشراف المستقبل.

فلم يكن د.جمال حمدان مجرد جغرافي بارع ولكنه كان مفكرا من طراز رفيع  فكان شغله الشاغل تأسيس وعيٍ جغرافي في محاولة منه لفتح آفاق رؤية استرتيجية ذات بعد مستقبلي تساهم في الارتقاء  بالوعي العربي فلا وعى سياسى دون وعى تاريخى صحيح أنه كان مهموما بتخصصه الأكاديمي الدقيق في علم الجغرافيا لكنه استطاع ان يضعه في قالب فريد فانتقل به من حيز الدراسات التقليدية إلى حيز الجغرافيا السياسية التي تحدد ولا تحتم .

فالجغرافيا ليست خصائص وتوزيعات الاقليم بل هي شخصية الاقليم هي روح المكان الذي يعكس عبقرية ذاتية متفردة وبهذه الرؤية استطاع ان ينقل الجغرافيا من علم وصفي الي نهج فلسفي من مرحلة المعرفة إلى مرحلة التفكير من جغرافية الحقائق المرصوصة إلى جغرافية الأفكار الرفيعة.

وتدرجت مؤلفاته التي كانت إمدادات للوعي الحضاري رويدا رويدا فبدأت بالاجابة عن السؤال الاهم من نحن من خلال فهم الجغرافيا المكانية وجاءت دراساته عن  العالم العربي و جغرافيا المدن  ثم انتقل لمرحلة اخري وهي اعرف عدوك  وجاءت دراساته التي وضع فيها اليهود تحت مجهر التاريخ والجغرافيا وفند فيها الفرق بين اليهودية كدين سماوي وبين الدولة الصهوينة التي قامت علي ادعاءات تاريخية وجغرافية لا أساس لها من الصحة من خلال مؤلفه اليهود أنثروبولوجيًا وهو ما جلب له الكثير من الشرور اهمها رحيله الغامض فور انتهائه من مؤلفه اليهودية والصهيونية الذي لم يتم طباعته واختفي في حادثة موته المريب.

كان جمال حمدان عاشقا لمصر وابنا نجيبا لحضارته ويظل كتابه الاشهر شخصية مصر المرجع الاصيل لفهم الهوية المصرية وشخصيتها المتفردة والذي تتجلي فيه عبقرية المكان واستند في تحليله علي الجغرافية التاريخية وروح المكان مستخدما لغة رصينة ومفردات تشع ابداعا وجمالا وخيالا فالخيال عند د.جمال حمدان اولي درجات الابداع العلمي و الخلق والتجديد والابتكار هو المحصلة النهائية وبغير الخلق يكون العمل العلمي مجهود مضن مجدب.
   
لم تكن لحمدان لمحات عبقرية فيما يخص مصر وجغرافيتها فقط بل ان عبقريته العلمية جعلته يستقرء المستقبل ويتنبأ به مثل انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الشرقية قبل انهيارها فعليًا كما تنبأ بصعود الإسلام السياسي وهو ماحدث فعليا  وندد بأي مشروع يتخذ الإسلام السياسي منهجًا له.

وتنبأ حمدان بالتباعد  التدريجي بين أوروبا وأمريكا وتنبأ ايضا بالتراجع الامريكي والذي ستتحول فيه  إلي عملاق سياسي وقزم اقتصادي  وكان حمدان يري أن مصر وتركيا وإيران ثلاث قوى اقليمية  بينهم صراع حتمي ومستمر من أجل النفوذ في الشرق الأوسط، وأن تركيا وإيران كلاهما خطر على العروبة ومصر كما تنبأ بأنه في حال غياب مصر عن القيادة في العالم العربي سيظهر التفكك والانهيار العربي وهوما حدث بالفعل.

والحديث لاينتهي في قطوف المفكر الراحل جمال حمدان الغائب الحاضر الذي لم يمنحه الغياب سوي المزيد من الحضور في وجدان  امته وضمير ووعي المصريين جيلا بعد جيل ولم ينل موته من حضوره الثقافي في الحياة المصرية والعربية بل زاده توهجا ولم يمنعه الرحيل من الحضور العلمي العبقري في المكتبة الجغرافية العالمية. 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط