الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

القابض على الجمر


كنت اتعجب وأنا في مقتبل العمر عندما سمعت حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر». رواه الترمذي ، وترقبت من حولي لسنوات طويلة عسي أن افهم لماذا استخدم رسولنا الكريم هذا التعبير المجازي البليغ والذي يدل علي صعوبة التمسك بالدين ، فالجمر يحرق أجسادنا ولا نتحمل مشقة لمسه فما بال من يمسك به بل يقبض عليه بقبضته ؟.

ومرت الأيام وهي خير معلم فإذا بي اتفهم في نفسي وفي من حولي مفهوم القبض علي الجمر بكل ما فيه من صعوبة ومشقة ، فنحن في زمن الفتن في آخر الزمان حيث يقل المؤمنون ويزداد البعد عن المولي عز وجل،، وتتعقد الحياة بكل ما فيها من معطيات وتتحطم أحيانا الآمال والأحلام أمام الأعين وتذهب بعيدا وتتحول إلي سراب يحسبه الظمآن ماء ،، وعندما يذهب إليه لا يجد في انتظاره إلا خيبة الأمل .

وجدت في الحياة حولنا شرح مكتمل لقوله تعالي في سورة الواقعة (إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ ). فالمقربون قلة في هذا الزمان رغم كثرتهم في زمن رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم.

زمن الرسول كان زمن البناء والتأسيس ، زمن سماته الوفاء بالعهد والإيثار والبر والتقوي ، عكس ما نراه في هذا الزمن الذي زاد فيه الغدر وانتشرت الجرائم واسودت القلوب وابتعد العديد من البشر عن العبادة الحقيقية،، والعبادة ليست صلاة أو صوم فقط،، إنما تشمل المعاملات اليومية بكل ما فيها من تفاصيل ،، فقد يصوم البعض ويؤدون الصلاة ويظلمون من حولهم بأساليب مختلفة.

الزواج مثلا دوره الرئيسي بناء الأسرة والمجتمع والحماية من الزنا وصيانة الأعراض ، فنجد من حولنا أنه قد يتحول إلي مصدر للعذاب والمعاناة والفتن ،، قد يتزوج رجل من امرأة متسلطة تحول حياته إلي سلسلة من المعاناة وبدلا من أن يجد السكينة والأمان معها يعيش حياة معقدة ينسج فيها سيناريوهات متعددة تخفي الحقيقة ويترك لنفسه منفذ يتنفس منه ويشعر من خلاله بالحرية،، قد يلومه البعض أحيانًا عن تقبله لهذا الوضع واستمراره في المعاناة ولكن في الحقيقة تلك الأمور في واقع الأمر في هذا الزمان شديدة التعقيد وخصوصًا حال وجود أولاد ، وصعوبة التعامل مع القوانين المنظمة للأسرة في هذا الزمن ، وقلة الحيلة ، وصعوبة تأسيس البيوت من جديد،، يقف هنا المرء حائرًا بين الاستمرار والمعاناة المستمرة وبين الرحيل الذي قد يفتح أبواب جهنم ، فيختار الاستمرار مع المعاناة،، ويبحث لنفسه عن حياة أخري ويقف أحيانا مشتت بين الدين والمسؤولية وبين رغباته الجسدية والروحية . 

والعكس صحيح عندما تتزوج امرأة من رجل متسلط أو زوج يهمل بعض احتياجاتها النفسية أو الجسدية ،، أو يحدث بينهما عدم توافق فكري وجسدي وتتعقد الحياة فيما بينهما ولا تجد  بعد محاولات متعددة لإصلاح تلك العلاقة  سبيلا سوي الصمت  وتحاول جاهدة مقاومة كافة الضغوط التي قد تتعرض لها وتقبض بقوة علي دينها فيتحول إلي جمر يحرقها .

تلك الأمثلة متكررة في حياتنا قد تتشابه مع قصص البعض وقد تختلف أحيانًا بصورة أو بأخري ولكن المحصلة واحدة وتفسر قول المولي في كتابه الكريم بعض الآيات التي تتحدث عن علاقة الأهل بعضهم البعض وعلاقة الأزواج والأولاد ، فتن متعددة لا يتحملها سوي قوي الإيمان ، القابض علي الجمر .

وفي اتجاه آخر نجد أنفسنا أمام حالات أخري ومواقف تدفعك أحيانا إلي فقدان الثقة فيما يحدث من حولك ، فقدان الثقة في قدرتك علي التحمل ، عندما تمضي قدما بكل ما لديك من عزيمة وإصرار في طريق النجاح فإذا بك محاصر بكل ما يدفعك لليأس وفقدان الأمل ، وتقف حائرًا عندما يتطلب الأمر التضحية بكل ما قمت به من خطوات لسنوات ، وتجبرك الظروف لغلق الطريق بعد أن أوشكت علي الصعود وتعود من حيث أتيت بائسا وحيدا في انتظار القدر أن يحنو عليك من جديد ليفتح لك الطريق ذاته أو ليفتح لك سبيلا آخر للتعايش ، وقد تجد نفسك مريضًا تلهث وتقاوم وتفقد مقومات النجاح مع مرور الوقت دون أن تجد وسيلة تنقذك من ظلمات اليأس.

هكذا نعيش في آخر الزمان حيث الضغوط التي لم يتعرض إليها الأولون ، كانت حياتهم لله خالصة لوجهه ، هدفهم الأساسي تأسيس الأمة ، ونشر محاسن الأخلاق ، فضلوا التحمل والشقاء وتحملوا الصعاب فاستحقوا أن يكونوا من المقربين ،، وأكرمهم المولي عز وجل بنور الإيمان الذي أضاء لهم الطريق وكان عاونا لهم وقت الشدائد،، ورحلوا وتركوا الأرض لنا لنحيا زمن الجمر ونلهث ونحن نحاول جاهدين القبض عليه لنحمي أنفسنا من الفتن ،، منا من ينجح ويصمد ومنا من ينهار،، اللهم إنا نسألك العفو والعافية.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط