الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الإعلام والتنوير

صدى البلد

المعارف كالزهور عبيرها من نصيب الساعى إليها، اقرأ كتاب ستجد الجواب أو مزيداً من التساؤلات التى ستطلق عنان أفكارك، اذهب للسينما وشاهد ما يعرضه عليك صندوق الدنيا واستمتع بالساعات القليلة أمام تلك الشاشة الكبيرة التى ترفع المزلاج عن مشاعرك الدفينة، فتطل تلك الدمعة الخجولة أو تنتشل ضحكة معسولة من بين آلامك المصقولة، وعند عودتك للمنزل ستجد شاشة أخرى بانتظارك،  ولكن أنت رهن مزاجها وجدول عملها ولكن لا تستهن بها وإن كانت صغيرة، فهى تحمل الكون وتضعه بين عينيك بينما تتكئ على جانبيك.

ولكن ذلك الوصف لا يناسب هذا العصر، ولّى هذا الزمان الذي كانت فيه الريادة المعرفية رهن كتاب وسينما وراديو حتى التلفزيون فقد عرشه ولم يصبح الحصان الكسبان، تغيرت الدُنيا فاختلفت احتياجات الناس منها، وفي السنوات القليلة المارقة هزت التكنولوجيا الحديثة سماوات الدنيا الرائقة، تحولت الثلاث إنشات لبساط وردي يرتحل بك في جوانب العالم السحرى، وكلٍ من نيته يحدد وجهته، فنون أو مجون، رياضة أم عباطة، ثقافة بلا تعقيد أو ربما هناك من يبحث عن البساطة المعقدة! أحلم تجد.. كل ما عليك أن تلمس الشاشة السحرية ولن تزعجك حتى بشبيك لبيك فطالما هي متصلة بالشبكة العنكبوتية فهي عبدتك وملك يديك.

راودتني تلك الأفكار في ندوة شرفت بحضورها وسط أساتذة هم من خيرة الكِبار، كان عنوانها " الريادة الإعلامية " واتخذت من القنوات الإخبارية نموذجاً لها، على مدى الساعتين سعدت بتلك الوجبة الإعلامية الدسمة، التي طُرحَت بها العديد من الموضوعات الساخنة والرؤى الثاقبة والخبرات السديدة، فكلهم قامات كبيرة، أسست العديد من القنوات وشيدت الكثير من مناهج الكليات الإعلامية، ويرجع لها الفضل في كتابة العديد من الكتب التى تعتبر مصادر معرفية موثقة لأرباب صناعة الإعلام.

ومن أمتع اللحظات في كل الندوات هى لحظة فتح باب الأسئلة، فهي الوجه الآخر من العملة التى توضح مدى الإتفاق وحجم الاختلاف مع الرؤى المطروحة، وعلى غير العادة في تلك المحافل كانت أجواء الوِفاق تسود الارجاء بين الحاضرين والمحاضرين، ولن استثني أحدًا غيري في هذا الحشد الغفير، نعم أنا اعترض!

بالرغم من قناعاتي بمدى صحة كل ما ذكره أساتذتي العِظام من الناحية الأكاديمية، فمن وجهة نظري أنها غير قابلة للتنفيذ في الأرض الواقعية، وإن كان ما يعول عليه تجاربهم السابقة فهى تجارب بعيدة عن متغيرات اليوم، كنوز ثمينة نتعلم منها ونستفيد من جواهرها ولكن مع متطلبات اليوم يستحيل أن نطبقها!

عندما بدأ بث التلفزيون في عام ١٩٦٠ من القرن الماضي، لخص صلاح چاهين بجمله الرشيقة مفهوم الرسالة الإعلامية التى تلخص كل تعريفات الإعلام في كلمات بسيطة وتضع محددات الريادة بصورة واضحة" كله ثقافة وعلوم وفنون بيسلي تمام زي السيما، علم، سياسة، توجيه، أخبار،  أفلام عربية وغربية، وتلات قنوات ليل ويا نهار شغالة عشان التسلية،  ينقلك مسرح روايات ويجيبلك العالم حكايات”.. 

ولازالت لليوم تلك الرسالة هي الأقرب لما يطلبه المتلقي، فيما عدا أن عصر التوجيه قد مضى مع زيادة عدد القنوات من الثلاث قنوات إلى العدد اللانهائي منها، وتلك لُب المعضلة وأصل المشكلة التى تواجه مفهوم الريادة وتصنع الفجوة بين  معايير القائمون على العمل الإعلامي ورغبات الجمهور الذي أدار غالبيته ظهره لتلك التعريفات ولم يشغل باله بما يُسطر لوضع المحددات، وذهب يبحث عن ما يشبع احتياجاته في هذا المحيط المتلاطم القنوات، سواء كانت تلفزيونية أو إذاعية أو منصات على الشبكة العنكبوتية.

وفي ظني أن وسط هذا العدد الهائل من القنوات ومع سلاح الاختيار الذي أمتلكه المشاهد أصبح من الصعب وضع معيار  محدد لمزاج المشاهد وميوله المتغيرة، فنحن الآن أمام مُتلقي ملول، لا طاقة له إلا من رَحِم ربي بمتابعة طويلة لكل ما يقدم له مرئياً أو مسموعاً أو مقروءاً، ولذا أكاد أجزِم أن الشكل التقليدي للإعلام عامة وللأخبار خاصة بكل تفاصيله صار حِكراً على الأخيار من المراحل العمرية التى يعود أصغرها للجيل الذى أمضى سنوات عمره الأولى بين بقلظ وماما سلوى وكرنبة!

الرسالة الإعلامية هى تواصلية ذات أبعاد تفاعلية بين الرسالة ومن يتلقاها فرضتها المستحدثات التقدمية، فالتقدم العلمي والتكنولوجي وما صاحبه من تغير سياسي وثقافي وما أعقبه من تحول اجتماعي ونفسي، أضفى تعقيداً على شكل الرسالة الإعلامية وبالرغم من ذلك فإن هذا التداخل له جانب من البساطة فكل ما يُقدَم له سوقه ولو على سوءه!

وهذا ما يبرر هذا الكم من القنوات على اختلاف منابرها، فاستمرارها هو دليل ريادتها، وإن لم تحمل معياراً واحداً لما جاء في الكتب، ولكنها حققت قراءة حقيقية لواقع جمهور يتابعها ويدعم استمرارها،
فصانع النجاح والفشل هو المُتلقي، فإذا جاء ذوقه ومِزاجه مغايراً لما كان مألوف فذلك يستدعى العودة لجذور المشكلة وهي وعي المُرسل إليه المفقود، وذوق متدهور بحاجة لمساعدته ليتمرد على الغث الموجود، وما سبيل لهذا إلا بالتعليم! وهذا كان حديثي الذي هوجمت بسببه فكيف نُعلم الناس!

نعلمهم بأن نرجع للوسائل التقليدية من الوسائل التعليمية، فلا يزال التعليم في الصِغر هو أفضل نقش على الحَجر، وخسارة جولة لا تعنى خسارة المعركة فإذا كان هناك جيلين بمثابة المفقودين بين غيبات المضللين فلازال الأمل في القادمين، فلنعلم أبنائنا معايير الريادة منذ نعومة أظافرهم، فليعود الكتاب والمسرح والنشاط الرياضى والفني فى جنبات المدارس، وفي الأماكن البعيدة عن أذرع العمران الثقافي فلنذهب إليهم.

قديماً كان يذهب إليهم الأراجوز  والبيانولا ويحكي لهم الأصول والعادات والتقاليد والحكايات، 
فلتقدم دور العبادة دورها الذي يضفي على المجتمع سعادة، وذلك ليس بتحريم الحياة على الناس ولكن بالإشارة لمكارم الأخلاق التى تجعل منها متسع لكل الناس.

الإعلام وسيلة فاعلة وحقيقية في بناء الأمم أو هدمها، فالكلمة كالطلقة والصورة بألف طلقة، ولكن لا يفل الحديد إلا الحديد، فالإعلام وسيلة من إحدى الوسائل وليس جميعها، لذا إذا أردنا ريادة إعلامية فعلينا بزيادة الجرعة الثقافية والتعليمية والفنية والأدبية والرياضية فكلها أدوات تنويرية.