الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

راقب هذه العلامات.. كيف نعرف أن العالم مقبل على كارثة ركود اقتصادي؟

الدولار الأمريكي
الدولار الأمريكي

تحتشد عبر أسواق العالم حاليًا بوادر وإشارات تنبئ بأن الاقتصاد العالمي يتأرجح على حافة هاوية ركود اقتصادي، أو حسبما تقول قناة "سي إن إن" الأمريكية فإن السؤال لم يعد ما إذا كان سيحدث ركود أم لا، وإنما متى يحدث.

وأوضحت القناة أن العلامات المنذرة بالركود تزداد وضوحًا يومًا بعد آخر، ولا سيما بعدما أصبح من المؤكد أن الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) ماض في سياسته النقدية الانكماشية المتشددة من أجل كبح التضخم، حتى وإن كان ثمن ذلك هو الركود، وحتى وإن كان على حساب المستهلكين والشركات في أنحاء العالم خارج الولايات المتحدة.

وعندما يحذر خبراء الاقتصاد من انكماش أو ركود اقتصادي قادم، فإنهم عادة يعتمدون في تقييمهم على مجموعة من المؤشرات.

سعر الدولار

يلعب الدولار الأمريكي دورًا بالغ الحيوية في الاقتصاد العالمي والتمويل بوصفه عملة التداول العالمية وعملة الاحتياطيات النقدية الأولى لمعظم دول العالم، ويسجل مؤشر الدولار حاليًا، والذي يقيس قوته أمام سلة من العملات الأخرى، أعلى مستوى له منذ 20 عامًا.

وترجع قوة الدولار المتزايدة تلك إلى قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي المتتابعة بشأن زيادة أسعار الفائدة، فما أن تزداد أسعار الفائدة على الدولار حتى يصبح أكثر جاذبية للمستثمرين في جميع أنحاء العالم، فيتهافت هؤلاء على شرائه أو الاستثمار في أدوات الدين الأمريكية المقومة بالدولار، ما يساهم بدوره في مزيد من الارتفاع في سعر الدولار أمام العملات الأخرى، ومن ثم تزداد تكلفة السلع والخدمات المستوردة على المستهلكين والشركات في جميع أنحاء العالم.

وفي أي مناخ اقتصادي طبيعي، يُنظر إلى الدولار باعتباره أداة آمنة لادخار واستثمار الأموال، أما في مناخ مضطرب مثل جائحة عالمية على سبيل المثال أو حرب في أوروبا، يكون لدى المستثمرين حافز أكبر لشراء الدولار، عادة في شكل سندات حكومية أمريكية.

وفي حين يعد الدولار القوي ميزة جيدة للأمريكيين الذين يسافرون إلى الخارج، إلا أنه يسبب مشكلات عويصة لغير الأمريكيين، إذ تراجعت قيمة الجنيه البريطاني واليورو واليوان الصيني والين الياباني أمام الدولار، وهذا يجعل استيراد المواد الأساسية مثل الغذاء والوقود أكثر تكلفة بالنسبة لتلك الدول.

ونتيجة لذلك، ينتهي الأمر بالبنوك المركزية، التي تكافح بالفعل لكبح التضخم، إلى رفع أسعار الفائدة لدعم قيمة عملاتها ومحاولة الحفاظ على احتياطياتها النقدية بالدولار، وكذلك لسحب المعروض النقدي الزائد في الأسواق والذي يُعد من أسباب ارتفاع الأسعار.

وعندما ترفع البنوك المركزية أسعار الفائدة، بما فيها الفائدة على الاقتراض، يحجم المستثمرون عن الاقتراض من أجل التوسع في الأعمال ويميلون أكثر إلى الاستثمار في الأدوات المالية لا الإنتاجية، ما يؤدي إلى تباطؤ النمو وفقدان الوظائف وانكماش الاقتصاد، أو بكلمة مختصرة: الركود.

التسوق في الولايات المتحدة

يعد التسوق هو المحرك الأول للاقتصاد الأمريكي، الاقتصاد الأضخم في العالم، وإذا كان المستهلكون والمتسوقون في الولايات المتحدة يشعرون بوطأة ارتفاع الأسعار، فمن المؤكد أن المستهليكن في جميع أنحاء العالم يشعرون بها على نحو أكثر حدة.

وبعد أكثر من عام من ارتفاع أسعار كل شيء تقريبًا في الولايات المتحدة مع عدم مواكبة الأجور لقفزات الأسعار، تراجعت قدرات المستهلكين على الشراء والتسوق، وبات الكثير منهم يميل إلى الادخار أكثر، لا سيما مع رفع أسعار الفائدة.

وبعد قرارات الاحتياطي الفيدرالي المتتالية هذا العام بشأن رفع أسعار الفائدة، ارتفعت معدلات الرهن العقاري إلى أعلى مستوى لها منذ أكثر من عقد، مما يجعل من الصعب على الشركات أن تنمو. وفي النهاية، من المفترض أن تؤدي زيادة أسعار الفائدة من جانب الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار السلع الاستهلاكية بشكل عام، ولكن إلى أن يحدث ذلك تظل أسعار السلع والخدمات الضرورية كالطعام والسكن مرتفعة بشكل مؤلم.

لقد اقترض الأمريكيون وأنفقوا بكثافة خلال فترة جائحة كورونا، مستفيدين من السياسات النقدية التوسعية المتساهلة وأسعار الفائدة المنخفضة على الإقراض، وبرامج المساعدات المالية الحكومية لمن فقدوا وظائفهم ومستحقي الإعانات، ولكن ذلك أدى إلى ضخ كميات هائلة من النقود في الأسواق، وأدى ذلك بدوره إلى ارتفاع معدل التضخم في الولايات المتحدة إلى أعلى معدلاته منذ 40 عامًا، وبات من الضروري بشكل ملح تشديد السياسات النقدية لكبح التضخم وإن كان الثمن، مرة أخرى، هو الركود.

الشركات تقلص نفقاتها

تتوسع الشركات في الإنفاق على الإنتاج عندما ترى أو تتوقع ارتفاع الطلب بفضل زيادة القوة الشرائية لدى المستهلكين، والتي تزداد بفضل ضخ كميات كبيرة من النقود في الأسواق عن طريق تسهيل الإقراض وزيادة الأجور وبرامج المساعدات المالية، لكن ثمن ذلك في النهاية هو التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع القدرات الشرائية، ومن ثم تتوقع الشركات تراجع الطلب فتقلص نفقاتها الإنتاجية خوفًا من تراجع الأرباح.

وفي منتصف سبتمبر الماضي، صدمت شركة "فيديكس" الأمريكية لخدمات البريد والشحن، وهي شركة شديدة الضخامة تعمل في أكثر من 200 دولة حول العالم، صدمت المستثمرين الذين يعتبرونها نموذجًا يُحتذى، عندما راجعت توقعاتها وحذرت من تراجع الطلب، ومن ثم خفضت توقعاتها للارباح بنسبة 40%.

وفي مقابلة صحفية، سُئل الرئيس التنفيذي لشركة فيديكس عما إذا كان يعتقد أن التباطؤ بمثابة علامة على ركود عالمي يلوح في الأفق، فأجاب "أعتقد ذلك. هذه الأرقام لا تبشر بالخير".

وليست شركة فيديكس وحدها، فيوم الثلاثاء انخفض سهم شركة آبل بعد أن أفادت وكالة "بلومبرج" بأن الشركة ألغت خططًا لزيادة إنتاج آيفون 14 بعد أن جاء الطلب أقل من التوقعات.

انهيار البورصة والأسهم

نتيجة قرارات الاحتياطي الفيدرالي رفع أسعار الفائدة، تعرضت بورصة وول ستريت، وبورصات العالم بالتبعية، لضربة قوية، وتتجه الأسهم الآن نحو أسوأ عام لها منذ عام 2008، بسبب إحجام المستثمرين عن شراء الأسهم وتدافعهم للاستثمار في أدوات الدين الأمريكية كالسندات الحكومية وأذون الخزانة.

ازدهرت أسواق الأسهم في عام 2021، حيث ارتفع مؤشر ستاندرد آند بورز 500 (الذي يضم أسهم أقوى 500 شركة في السوق الأمريكية) بنسبة 27٪، بفضل تدفق السيولة النقدية التي ضخها مجلس الاحتياطي الفيدرالي، والذي أطلق العنان لسياسة التيسير النقدي المزدوجة في ربيع عام 2020 لمنع الأسواق المالية من الانهيار إبان انتشار جائحة كورونا.

ولكن مع بدء التضخم، بدأ الاحتياطي الفيدرالي في تشديد السياسات النقدية ورفع أسعار الفائدة وفك آلية شراء السندات التي دعمت السوق، من أجل سحب المعروض النقدي الزائد من الأسواق.

وكانت النتائج مؤلمة، انخفض مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وهو أكبر مقياس لقوة بورصة وول ستريت بنسبة 24٪ تقريبًا لهذا العام. وانخفضت جميع المؤشرات الأمريكية الثلاثة الرئيسية بنسبة 20٪ على الأقل عن أعلى مستوى بلغته.

الحرب والسياسات المتطرفة

عندما تنشب حرب في منطقة يمتد تأثيرها على نطاق عالمي، يشكل ذلك ظرفًا مثاليًا لحدوث ركود عالمي، فإذا كانت الحرب في مكان شديد الحيوية بالنسبة لإمدادات الطاقة والغذاء على مستوى العالم يصبح احتمال الركود أكبر.

ويمكن اعتبار بريطانيا نموذجًا مثاليًا لتصادم الكوارث الاقتصادية والمالية والسياسية بشكل مؤلم، فمثل بقية دول العالم، عانت بريطانيا من ارتفاع الأسعار الذي يُعزى إلى حد كبير إلى الصدمة الهائلة لجائحة كورونا، ثم الاضطرابات التجارية الناتجة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، ومع قيام الغرب بقطع واردات الغاز الطبيعي الروسي، ارتفعت أسعار الطاقة وتضاءل المعروض من الإمدادات.

ولكن مع ذلك، فقبل قليلًا من أسبوع، أعلنت الحكومة البريطانية الجديدة برئاسة ليز تراس عن خطة شاملة لخفض الضرائب، شجبها الاقتصاديون من مختلف التوجهات.

وقالت إدارة تراس إنها ستخفض الضرائب على جميع البريطانيين لتشجيع الإنفاق والاستثمار، وتخفيف وطأة الركود من الناحية النظرية، لكن التخفيضات الضريبية لا يتم تمويلها من مصدر آخر للدخل الحكومي، ما يعني أنه يجب على الحكومة الاستدانة لتمويلها.

أثار هذا القرار حالة من الذعر في الأسواق المالية ووضع الحكومة البريطانية في مواجهة مع بنك إنجلترا (البنك المركزي البريطاني). وباع المستثمرون في جميع أنحاء العالم سندات الحكومة البريطانية بأعداد كبيرة لأنهم توقعوا انخفاض سعرها، مما أدى إلى انخفاض الجنيه الإسترليني إلى أدنى مستوى له مقابل الدولار منذ ما يقرب من 230 عامًا.

وتدخل بنك إنجلترا بشكل طارئ يوم الأربعاء الماضي لشراء السندات البريطانية واستعادة النظام في الأسواق المالية، وقد أفلح في وقف تدهور قيمة الجنيه الإسترليني مؤقتًا، لكن آثار الاضطراب الذي تسببت به الحكومة البريطانية تتجاوز بكثير مسألة مكاسب وخسائر حملة سندات الحكومة البريطانية.

يخشى البريطانيون، الذين يعانون بالفعل من أزمة تكلفة المعيشة مع بلوغ التضخم 10٪ - وهو أعلى معدل في أي اقتصاد في مجموعة السبع - يخشون الآن من ارتفاع تكاليف الاقتراض التي قد تدفع مدفوعات الرهن العقاري الشهرية لملايين المنازل إلى الارتفاع بمئات أو حتى آلاف الجنيهات.

الركود مسألة وقت

على الرغم من الإجماع على احتمال حدوث ركود عالمي في وقت ما في عام 2023، إلا أنه من المستحيل التنبؤ بمدى شدته أو المدة التي سيستغرقها، فليس كل ركود مؤلمًا مثل الركود العظيم في الفترة 2007-2009 إبان الأزمة المالية العالمية، لكن كل ركود مؤلم بالطبع بدرجة أو أخرى.

ستكون بعض الاقتصادات، ولا سيما الولايات المتحدة بسوق العمل القوي والمستهلكين المرنين، قادرة على تحمل الضربة بشكل أفضل من غيرها.

وعلى الرغم من أن رفع أسعار الفائدة أداة ضرورية بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وسائر البنوك المركزية حول العالم في سبيل كبح ارتفاع التضخم، فإن تكرار رفع أسعار الفائدة مرارًا وعلى فترات متقاربة يهدد، حسب تحذير البنك الدولي، بموجة مقابلة من الركود المدمر للاقتصادات، تترك الدول الأكثر فقرًا على حافة الانهيار.

وشبّه البنك الدولي الموقف الحالي بوضع ساد في أوائل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، عندما أدت موجة مشابهة من رفع أسعار الفائدة عالميًا إلى ركود في حركة التجارة العالمية، تسبب في أزمة تخلف عن سداد الديون في دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء.

مع ذلك، لا تزال الحقيقة أنه لا توجد حلول أو خيارات كثيرة أمام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي سوى رفع أسعار الفائدة، وفي إعلانه رفع أسعار الفائدة أمس الأربعاء، قال رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بوضوح إنه يدرك تداعيات سياسات البنك المركزي الأمريكي على دول العالم، لكنه مضطر وملزم بخفض التضخم محليًا في الولايات المتحدة.