الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

د. أيمن يوسف يكتب: طارق أسعد ..آخر هدايا القدر (2)

صدى البلد

مرت الأعوام وكأن الرحيل كان للتو بالأمس، منحت الجنازة وقارا من جلالك المعروف، ومنحت الحاضرين سلاما وطمأنينة "كعادتك" رغم الغصة والألم اللذين في قلب كل من أتى وصلى، لم أر من قبل دموع في جنازة بها كل هذا الحنين وهذا العرفان، في دمعة كل شخص حكاية، وفي كل رمقة عين ذكرى معك و"حدوته" أكاد أسمعها في هذا الصمت المطبق، غدا جامع النور وكأنه بستان من بساتين الله، نزفّ منه شذرة من شذرات العلم والنور والإنسانية، أظنك استشعرت حضوري، وحوارنا الطويل الذي دار بيننا وانا أجلس بجانبك مستندا على عامود الجامع كان شيقا كالعادة، من أحاديث الطب ومشروع الجينوم ومشروع الكونيكتوم البشري وصولا لقصائد شوقي ونازك الملائكة ومحمود درويش، كلها مرت في حوارنا الصامت الاخير، وكأنني لآخر مرة سأتحدث مع أحد عن العلم والطب والشعر والفكر والسياسة، لم يقطع حوارنا سوى صوت الاذان للصلاة والاقامة ليأخذوك منا وتبتعد أمام أعيننا، وأراك لأول مرة تنهي "الجلسة" وانت الذي عودت مرضاك وأصدقاؤك وتلامذتك أن تنصت لهم للنهاية، لم تنه الحديث مرة وان طال، تستكمله للحظة الأخيرة بنفس لياقة اللحظة الاولى، نفس الإنتباه والحضور والشغف، نفس الرحابة وسعة الصدر، نفس الحميمية والرونق في إلتقاء آلام الناس واوجاعهم وأفكارهم وجموحاتهم، الان فقط آثرت السكون، وآثرت الجنوح قليلا لاستراحة المحاربين، ومن ثم عرفنا أنه كان لك عودة اخرى، عودة في الأثر، وفي المعنى، عودة كنت تطل لنا منها في كل زهرة سقيتها، وفي كل نبتة نمت من هطولك الغزير.

ما الذي أودعته في قلوب الناس لأرى مئات الحاضرين وقد أتوا من عدة بقاع بكل هذا الصدق رغم ضيق المسافة الزمنية ومفاجأة الرحيل، ما الذي كان بينك وبين الله حتى تلتقيه محمولا بكل هذا الحب وهذه الصلوات وهذا الحنين الذي استدعى انتباه الغرباء وانتباه كل من  تابع الموقف من المارة، ظن الكثيرون أن هذا العدد الكبير الذي يحيا في "نسق وجداني موحد" هم من عائلة وأسرة واحدة، لم يعلموا أن "للفضيلة" قدرة خاصة على السمو بالوجدان، قدرة على تآلف القلوب حول المحبة والمودة والصفاء، ليصبح الجميع كمن بينهم "صلة دم"، الدم بينهم هو الحب والتآخي وقربى' الانسانية، جمعت بعبقرية خالصة كل اصدقائك وزملائك ومرضاك وتلامذتك ومورديك في "أسرة واحدة"، في عائلة ممتدة، عميدها واحد، ورحمهم ممتدة فيما بينك وبينهم وبين الله.

حتى في رحيلك منحتنا "المعنى"، ورسخت "للسواسية"، من زملاء مهنة ومثقفين ومفكرين ونجوم مجتمع...إلى تلامذتك وطلابك وأبسط العاملين في القطاع الطبي؛ كلٌ سواسية في رحابك وفي رحاب تلك الحالة الوجدانية التي كنا عليها، كلنا بنفس الأسى، ونفس الدهشة، ونفس الخشوع والامتنان على هذا "الجمال" الذي منحته لحياتنا قبل أن تخدعنا وترحل رحيلك المفاجيء، من الصعب أن تتوحد هذه الحالة بين المئات في سياق جمعي منسق، وفي لحظة لم تكن معدة من قبل ليستعد لها أحد، لكنها عبقريتك "مجددا"، تقودنا حتى وانت ساكن، تمنعنا وتمنحنا الفعل واللافعل، الخطوة واللا خطوة، تلهمنا بما يجب أن تكون عليه مشاعرنا وأفكارنا وروحانيتنا، وتحرضنا كعادتك على ما يهذب النفس والروح، حتى كائنات الله كان لها من هذا التجلي نصيب في وداعك، يرى من يرى من خلف الحجب وفود الحمام أتت من تلال تونس ووفود يمام اوراسيا، صفوف الاسماء الملونة من بحيرات فينيسيا، خيول جبال "روكي" وغزالات مياه نياجرا وقطعان الماعز الابيض من شرق روما، طيور الألب وفراشات زهرة "الزوفا" وملائكة "مكة"، كلٌ أتى من ملكوت الله "للزفة" والصلاة عليك، شعرت بهم واعلم أن لم يرهم احد سواك، فهذا الزفاف النوراني لا يُكشف سوى لمن صفا وعلا وتزكى بمثل ما تزكيت وصفوت.

أعلم أنك فزت بكل ملذات العقل، الفهم والحكمة ونباهة الضمير، العلم والسخاء والعطاء ووفرة الوجدان، التواضع والرحمة واللين أمام ابتلاءات الناس وانكسارات النفس البشرية، كلما قرأت ما كتبه اصدقاؤك وزملاؤك واسرتك الكريمة عنك، وكلما قرأت ما كتبته المقالات وحفلات التأبين وكلمات الحداد في بهو المؤتمرات ومناسبات احياء ذكراك، أطمئن لصفو المعنى الذي تركت لهم، يتوحد المضمون في كل عباراتهم ويدور حول كلمات ثابتة (العالم- النبيل- دمث الخلق)، فأعلم انك أتممت شطر الإيمان "بالمكارم"، وتدور في رأسي قصيدة الامام علي في المكارم العشر "الدين- العقل- العلم- الحلم- الجود- الفصل- البّر- الصبر- الشكر- اللين"، أتأمل كيف جمعتها جميعا في جهازك العصبي، وكيف كونت المشابك العصبية في خلايا وفصوص الدماغ لتصبح جميعها في سلوكك اللا إرادي، لتأتي كل هذه المكارم، وتلامس نبوع الايمان، ينحل اللغز عندي اخيرا في الذي بينك وبين الله، ومن بوابة الامام علي كالعادة، "ان الله جعل مكارم الأخلاق ومحاسنها وصلا بيننا وبينه"، فأعلم انك وصلت الله "بمحاسن الاخلاق" ومكارمها، ليمن عليك برزق الأولياء...العلم، وييسر لك "الإيمان"، ويفيض عليك بتلك المحبة الصافية الرقراقة في قلوب العباد.. دائما ما يحل الامام علي مثل تلك الألغاز "اللدنية"، لم يكتف الامام علي بالإمامة في الدين والدنيا، كان شاعرا ومفكرا وفيلسوفا من فلاسفة نجد والجزيرة، نرمق في أشعاره ورؤاه وأفكاره ما يحل أزهى ألغاز الحياة والدنيا وحكايات البشر، ولم نكن لنعرفك الا من خلال هذا المعين الصافي من العلم والحكمة والفيوضات الروحانية... يتبع.