قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

بفضل ترامب.. آن الأوان لنهاية وهم العولمة السعيدة| تقرير خاص

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

"كل نظام عظيم يبدأ في الانهيار عندما يفشل في خدمة من بُني من أجلهم." – جوزيف ستيجليتز… ففي زمنٍ تتكشف فيه هشاشة النظام التجاري العالمي، تبدو مقولة الحائز على نوبل للاقتصاد، ستيجليتز، أكثر موائمة من أي وقت مضى. 

فقد فجرت سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خصوصًا قراراته الجمركية الأخيرة، موجة من الارتباك والقلق على مستوى العالم، لكنها في جوهرها لم تكن إلا تسريعًا لانكشاف أزمات أعمق تعصف بنظام فقد قدرته على تحقيق التوازن بين مصلحة الأفراد واستقرار الأسواق.

مع إعلام ترامب في 2 أبريل الماضي عن فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق، تلا ذلك تأجيلات وانتقامات، مما أطلق موجة هائلة من عدم اليقين على مستوى العالم. وتركز معظم الأنظار على الآثار الفورية والفوضوية لهذه السياسات: تقلبات حادة في أسواق الأسهم، مخاوف بشأن سوق السندات الأمريكية، تحذيرات من ركود اقتصادي، وتكهنات حول كيفية تفاوض أو استجابة الدول المختلفة.

ولكن بغض النظر عن ما سيحدث على المدى القريب، فإن ما هو واضح تمامًا هو أن سياسات ترامب تعكس تحولًا في نظام التجارة ورأس المال العالمي، وهو تحول كان قد بدأ بالفعل.

فرغم أن النظام العالمي يستفيد من ارتفاع الأجور، الذي يؤدي إلى زيادة الطلب على الإنتاج، إلا أن التوترات تنشأ عندما تتمكن بعض الدول من تحقيق نمو أسرع من خلال تعزيز قطاع التصنيع على حساب نمو الأجور، مثلًا عبر قمع نمو الدخل الأسري مقارنة بنمو إنتاجية العمال. والنتيجة: نظام تجارة عالمي تتنافس فيه الدول، على نحو يضر بالجميع، من خلال إبقاء الأجور منخفضة.

وبما أن النظام الحالي لا بد أن يستبدل، سيكون من الحكمة أن يبدأ صناع السياسات بصياغة بديل منطقي. النتيجة المثالية ستكون اتفاقية تجارة عالمية جديدة بين اقتصادات تتعهد بإدارة اختلالاتها الاقتصادية الداخلية بدلًا من تصديرها عبر فوائض تجارية. ستكون هذه النتيجة شبيهة بالاتحاد الجمركي الذي اقترحه الاقتصادي جون ماينارد كينز في مؤتمر بريتون وودز عام 1944، حيث يطلب من الدول الأعضاء الحفاظ على توازن تقريبي بين الصادرات والواردات، مع فرض قيود على الفوائض التجارية للدول خارج الاتفاق. ويمكن لهذا الاتحاد أن يتوسع تدريجيًا ليشمل العالم بأسره، ما يؤدي إلى رفع الأجور عالميًا وتحقيق نمو اقتصادي أفضل.

لفهم الخلل في نظام التجارة العالمي، يكفي النظر إلى كيف تؤثر الأجور على الاقتصاد المحلي. فالأجور المرتفعة عادةً ما تعزز الاقتصاد، لأنها تزيد الطلب وتدفع الشركات للاستثمار في الكفاءة، ما يخلق دورة اقتصادية إيجابية. الطلب المتزايد يحفز الاستثمار في طرق إنتاج أكثر فاعلية، مما يزيد الإنتاجية ويدفع الأجور للارتفاع مرة أخرى.

هذه الظاهرة، المعروفة أحيانًا بمفارقة التكاليف لكاليتسكي، تنطبق أيضًا على الدول. فإذا ساهم خفض نمو الأجور في جعل الصناعة المحلية أكثر تنافسية على الصعيد العالمي، فقد يؤدي إلى نمو أسرع للدولة من خلال دعم صادراتها. لكن إذا قامت جميع الدول بذلك، فإن الطلب العالمي سينخفض، ويعاني الجميع.

في الاقتصاد العالمي، يؤدي خفض الأجور إلى دعم الإنتاج المحلي، لكنه يضغط على الاستهلاك المحلي، مما يخلق فجوة بين الإنتاج والاستهلاك. وإذا لم يتم حل هذه الفجوة من خلال رفع الاستهلاك أو الاستثمار، فإن الدول تلجأ إلى تصدير الفائض، أي تحقيق فوائض تجارية.

وهنا تظهر سياسات "أفقر جارك"، كما وصفتها جوان روبنسون عام 1937، وهي الفوائض التجارية الناتجة عن ضعف الطلب المحلي.

عندما كتب كينز وروبنسون، كانت تكلفة سياسات "أفقر جارك" تظهر في شكل بطالة، لكن بعد التخلي عن نظام بريتون وودز في السبعينيات، بدأت الحكومات، وخاصة الأمريكية، في تخفيف هذه الآثار من خلال تخفيض أسعار الفائدة أو عبر إنفاق حكومي غير مقيد.

ولهذا السبب عارض كينز في مؤتمر بريتون وودز نظامًا يسمح بفوائض تجارية كبيرة ومستمرة. ورأى أن هذا النظام سيشجع الدول على دعم صناعتها عبر قمع الطلب المحلي، ما يسبب ضغطًا على الطلب العالمي. الدول التي تنجح في هذا ستستحوذ على حصة أكبر من التجارة العالمية، على حساب شركائها التجاريين.

اقترح كينز بدلاً من ذلك أن تسعى الدول لتحقيق التوظيف الكامل عبر سياساتها المحلية. وفي نظام كهذا، لن تكون هناك "قوى اقتصادية جوهرية تدفع بمصالح الدول ضد بعضها البعض".

الخلل الداخلي في اقتصاد دولة ما يؤثر على الشركاء التجاريين. فالاختلالات الداخلية والخارجية لأي اقتصاد لا بد أن تتطابق. وبالتالي، الدول التي تتحكم في اختلالاتها الداخلية تؤثر على توازنات شركائها. لذا، كما قال داني رودريك، لا بد أن تختار الدول بين اندماج عالمي أعمق أو تحكم محلي أكبر في الاقتصاد.

في نموذج العولمة الأول، تتخلى الدول الكبرى عن التحكم المحلي لصالح الاندماج، ما يجعل السوق العالمية تعدل السياسات المختلة. أما النموذج الثاني، وهو الأقرب إلى الواقع، فيصف عالمًا تحتفظ فيه بعض الدول بتحكمها المحلي، من خلال ضبط نمو الأجور أو الأسعار أو توزيع الائتمان، وتفرض بالتالي اختلالاتها الداخلية على الدول الأخرى.
أفضل وسيلة لتحقيق ذلك هي إنشاء اتحاد جمركي جديد، على غرار ما اقترحه كينز. تلتزم الدول الأعضاء بتوازن التجارة فيما بينها، مع فرض عقوبات على من يخل بهذا التوازن، كما تفرض حواجز تجارية ضد غير الأعضاء لحماية نفسها من الاختلالات الخارجية. ولا يجب أن يكون التوازن ثنائيًا، بل على مستوى الشركاء كافة.

أما إذا لم ينشأ هذا الاتحاد، فإن العالم على الأرجح سيواصل السير في طريق "أفقر جارك" الذي تنبأت به روبنسون: دول تسعى لتحميل الآخرين عبء الاختلالات. وما إن تنجح دولة في زيادة ميزانها التجاري على حساب الباقين، حتى ترد الأخرى، وتنكمش التجارة العالمية ككل.