عقد الجامع الأزهر، مساء امس الاثنين عقب صلاة المغرب، حلقةً جديدة من «الملتقى الفقهي بين الشرع والطب» في نسخته التاسعة والعشرين، تحت عنوان: «حقوق الزوجية.. رؤية فقهية»، وذلك برعاية كريمة من فضيلة الإمام الأكبر أ.د أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، وبتوجيهات من فضيلة أ.د محمد الضويني، وكيل الأزهر، وفي إطار سلسلة اللقاءات العلمية التي يعقدها الجامع الأزهر أسبوعيًّا بالظلة العثمانية، ضمن جهود الأزهر الشريف لتعميق الفهم الصحيح لقضايا الأسرة والمجتمع.
وشارك في الملتقى كلٌّ من: فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية، وفضيلة الأستاذ الدكتور علي مهدي، أستاذ الفقه المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، وعضو لجنة الفتوى الرئيسية بالجامع الأزهر، وأمين سر هيئة كبار العلماء، فيما أدار اللقاء الدكتور مصطفى شيشي، مدير إدارة شؤون الأروقة بالجامع الأزهر.
أكَّد فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الله النجار، عضو مجمع البحوث الإسلامية، أن رياح الخطر بدأت تهب على الأسرة، مؤكدًا ان الأسرة هي الحصن الأخير الذي يحفظ وجود المسلمين وبقاءهم بين الأمم. وأضاف فضيلته أن الأسرة وحدها هي التي تحفظ الهوية والدين، مشيرًا إلى أنه بعد أن خُتمت الرسالات بخاتم النبيين ﷺ، وأُنزِل الكتاب الخاتم، باتت الأسرة وسيلة مهمة وأساسية لنقل الدين ومبادئ القرآن الكريم عبر الأجيال.
وأوضح فضيلته أن خطأ الناس الكبير يكمن في استهانتهم بشؤون الأسرة، وتعاملهم مع خلافاتها على أنها أمور عارضة أو هوى عابر، مؤكدًا أن ما يحدث من تنازع بين الزوجين قد يتحوّل إلى كيد متبادل يهدم الأسرة من داخلها، بينما الصبر في هذه اللحظات يُعدُّ من أرقى أنواع المعاملة بين الزوجين، فالأسرة هي الأداة التي تحفظ الدين وتقيمه.
وتابع الدكتور النجار حديثه مؤكدًا أن الله تعالى أنعم على الإنسان بنعمتين: نعمة بقاء النفس، ونعمة بقاء النوع، فالناس يُقبلون على حفظ أنفسهم بالغذاء والدواء والرياضة، ويجب أن يُقبلوا كذلك على حفظ النوع، أي استمرار الأجيال، وهو ما لا يتحقق إلا بالزواج، مشيرًا إلى قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾، وأن هذا النص الكريم يدل على أن الزوجين خُلقا من نفس واحدة، وأن بينهما قرابة من نوع خاص، ليس فيها درجات، بل هي درجة واحدة جامعة، تُقدَّم في كثير من الأحيان على قرابات النسب، مع التأكيد على أداء جميع الحقوق لأصحابها دون تفريط في أي جانب.
من جانبه، أكَّد فضيلة الأستاذ الدكتور علي مهدي، أمين سر هيئة كبار العلماء، أن عقد الزواج يتميز عن سائر العقود في الفقه الإسلامي، لأنه مبني على المكارمة لا على المكايسة، وعلى المودة لا على المغابنة، مشيرًا إلى أن الفقهاء أدركوا مقاصد هذا العقد فجعلوه في مرتبة متميزة. وقال فضيلته: «في عقود البيع مثلًا، إذا لم يُذكر الثمن كان العقد باطلًا، أما في الزواج فلو لم يُذكر المهر صح العقد، ويُفرض مهر المثل، لأن المقصود الأسمى فيه هو التراضي، لا المقايضة».
وأوضح فضيلته أن اتصال النفس بالنفس الغاية الأسمى من الزواج، وأن الشريعة جعلت العلاقة بين الزوجين قائمة على التوازن والعدل، مستشهدًا بقوله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهي عبارة جامعة لكل الحقوق والواجبات المتبادلة. كما أشار إلى أن الزواج في الإسلام ميثاق غليظ، لما يترتب عليه من آثار تمسّ المجتمع في صميم تماسكه، مبينًا أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج في جميع الأحوال، ولو كانت غنية، لأنها جزء أساسي من تحقيق القوامة، كما قال الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾.
وحذّر الدكتور مهدي من أن انهيار الأسرة بسبب التفريط في هذه الأحكام يفرز أزمات اجتماعية خطيرة، يكون ضحاياها الأبناء أولًا، مشيرًا إلى أن الشارع الحكيم لم يترك الناس لأهوائهم، بل أرسى أحكامًا واضحة تحفظ العلاقة الزوجية من الانهيار، ودعا إلى الاقتداء ببيت النبي ﷺ، قائلا: «النبي لم يعِش في بيت خيالي، بل واجه المشكلات وحلّها بالحكمة، وكان لا يطلب من نسائه الكمال، ولم تكن أمهات المؤمنين بلا أخطاء، لكن العلاقة كانت تقوم على الرضا والتسامح لا على المبالغة في التوقعات».
وفي ختام الملتقى، أكَّد الدكتور مصطفى شيشي، مدير إدارة شؤون الأروقة بالجامع الأزهر، أن الحديث عن "حقوق الزوجية" هو حديث عن ركيزة أساسية من ركائز المجتمع، وهي الأسرة، التي يتربى فيها الفرد ويترعرع، فينشأ إمّا شابًّا صالحًا نافعًا لمجتمعه، أو نقيض ذلك إذا غابت الحقوق وتفكّكت المسؤوليات، مضيفًا أن الزواج وإن كان فطرة وضرورة إنسانية، إلا أن الله عزّ وجل جعله شريعة وسنة، وسمّاه ﴿مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾، وهو ما يستدعي معرفة الحقوق والواجبات قبل الإقدام عليه، مشيرًا إلى أن قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ لا يُفهم منفصلًا عن قوله: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، وهو ما سعى الملتقى لتوضيحه وبيانه بميزان العلم والشرع.