في الأدبيات السياسية، يمثل الدخول في مفاوضات أكثر من مجرد عملية تقنية لنقل الرسائل بين الأطراف؛ إذ يعكس قبولًا ضمنيًا بقواعد اللعبة الدبلوماسية، والاعتراف بضرورة البحث عن صيغة تسوية، ولو بصورة شكلية. ومن ثم، فإن التفاوض غالبًا ما يُنظر إليه كآلية لإدارة الصراع أو احتوائه، حتى وإن لم يفضِ إلى تسوية نهائية، ما يمنحه وزنًا خاصًا في النظرية والممارسة السياسية.
غير أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يسعى إلى إعادة تعريف مفهوم التفاوض بما يخدم أهدافه المرحلية. فهو يحاول الجمع بين الإيحاء بالانخراط في عملية تفاوضية من جهة، واستمرار العمليات العسكرية المكثفة من جهة أخرى. وبذلك، يضع ما يمكن وصفه بـ “الشروط الخمسة” أو القواعد التي تُمكّنه من المناورة: التفاوض تحت القصف، تحديد جدول أعمال ضبابي، فرض إيقاع زمني متقطع، ربط أي تقدم ميداني باعتبارات داخلية، وأخيرًا تحميل الطرف الآخر مسؤولية أي تعثر. هذا النموذج يفرغ التفاوض من مضمونه، ويحوّله إلى أداة لإدارة الوقت والرأي العام بدلًا من كونه مدخلًا لتسوية.
انطلاقًا من ذلك، يبدو أن أي عملية تفاوضية جدّية تتطلب تصورات إسرائيلية مغايرة تتجاوز هذه المعادلة الضيقة. فإذا استمر نتنياهو في التعامل مع التفاوض باعتباره واجهة شكلية لمواصلة العمليات العسكرية، فلن تكتسب العملية أي مصداقية دولية، ولن تنجح في امتصاص الضغوط المتزايدة من العائلات الإسرائيلية أو من الوسطاء الإقليميين والدوليين. ومن هنا، فإن مستقبل المسار التفاوضي مرهون بقدرة إسرائيل على الانتقال من منطق المناورة إلى منطق التسوية، وهو ما لا يبدو متاحًا في ظل الحسابات السياسية الراهنة لنتنياهو.
على الرغم من أن المشهد في إسرائيل يتسم بترقب وحذر شديد، إلا أن حالة الارتباك داخل الحكومة واضحة. فقد اعتبرت إسرائيل موافقة حماس على المقترح الأخير بمثابة ضغط كبير على نتنياهو، الذي وجد نفسه أمام مأزق استراتيجي وسياسي، فمن جهة، هو متخوف من الذهاب إلى حرب مفتوحة غير مضمونة النتائج، بما تحمله من ارتدادات اقتصادية واجتماعية عميقة على الداخل الإسرائيلي. ومن جهة أخرى، فإن أي قبول بوقف الحرب أو صفقة جزئية يعزز الاتهامات ضده من قبل التيار اليميني بأنه يتنازل أو يراوغ.
يأتي ذلك في ظل خطوات غير مسبوقة، مثل إقرار ميزانية الحرب للمرة الخامسة منذ اندلاعها، وتخصيص 30 مليار شيكل أي ما يقارب 9 مليارات دولار لوزارة الدفاع لاستمرار العمليات العسكرية، فضلاً عن استدعاء 60 ألف جندي احتياط وتمديد فترة الخدمة لعشرين ألفاً منهم. وهي إجراءات تُدخل إسرائيل في مأزق اقتصادي داخلي عميق، لكنها في الوقت ذاته تعكس رغبة في الاستمرار بالعمليات العسكرية.
أما علي المستوي المقاربة العسكرية الإسرائيلية فيما يخص الدفاع الاستراتيجي والهجوم التكتيكي فقد، شهدت الأيام الأخيرة عمليات ميدانية نوعية لكتائب القسام في خان يونس وبيت حانون استهدفت مواقع تموضع الجيش الإسرائيل باستخدام ميركافا 4، وقد فشل الهجوم البري واستمرت العملية لمدة ٤ ساعات وتم الاستعانة بسلاح الجو وقد أظهرت هذه المعارك ضعف الأداء الاستخباراتي والعملياتي للجيش الإسرائيلي، وتدني مستوى جهوزيته القتالية، ومن المفترض أن يثير هذا الأمر5 قلقاً واسعاً داخل المؤسسة العسكرية
وفي المقابل هذه العمليات عكست قدرة المقاومة على إعادة تنظيم صفوفها وتبني أسلوب حرب العصابات، مستفيدة من الجغرافيا المعقدة والمواجهة المباشرة “وجهاً لوجه”، او ما يصطلح عليه المسافة صفر وهو ما حدّ من فاعلية القدرات التكنولوجية المتقدمة للجيش الإسرائيلي.
أمام هذا المشهد، تجد إسرائيل نفسها أمام ثلاثة خيارات رئيسية:
أولاً رفض المقترح والدخول في حرب مفتوحة، ستكون مدمرة للفلسطينيين لكنها مكلفة لإسرائيل ايضا، وقد تستمر لعدة أشهر، ثانياً، القبول بوقف تدريجي للحرب لمدة ستين يوماً، على أن ينتهي بوقف كامل، ثالثا، التوقف المؤقت لستين يوماً مع نية العودة للتصعيد بعد إعادة حشد القوات.
لكن الخيار الأكثر عقلانية أمام إسرائيل يتمثل في الذهاب نحو اتفاق شامل يقوم على خمسة مبادئ أساسية، أهمها استعادة الأسرى وضمان إدخال المساعدات، مع الحفاظ على صورة سياسية أمام الداخل الإسرائيلي بأنها لا تزال تملك زمام المبادرة.
ختاما؛ إن المأزق الحالي يعكس التناقضات العميقة داخل إسرائيل، بين رغبة في الحسم العسكري ورغبة أخرى في تجنب تداعيات الحرب المفتوحة. في المقابل، برزت المقاومة الفلسطينية كلاعب ميداني قادر على إطالة أمد الصراع وتعقيد حسابات الجيش الإسرائيلي، بينما تواصل مصر وقطر جهود الوساطة لإيجاد مخرج سياسي يوازن بين ضرورات الأمن والملف الإنساني.
وبينما ينتظر الجميع قرار نتنياهو والتيار اليميني، يظل واضحاً أن أي تأجيل أو مماطلة سيدفع باتجاه مزيد من الدماء ومزيد من الضغوط الاقتصادية والسياسية على إسرائيل نفسها، حتي تعود مجدداً إلى طاولة المفاوضات، لكن هذه المرة من موقع أضعف مما كانت عليه.