في واحد من المشاهد الشهيرة في الدراما المصرية يقف البطل ليقول: “الأرض دي مش مجرد تراب.. دي حياة، واللي يزرع فيها لازم يكون مطمئن إنه مش هيخسر عمره وفلوسه.” هذه العبارة ليست مجرد جملة فنية بل هي اختصار لحقيقة واقعية؛ فالمستثمر الزراعي لا يبحث فقط عن أرض يضع فيها أمواله، بل عن سياسات مالية مستقرة وآمنة تجعله يشعر أن جهده وماله سيعودان بالنفع. ومن هنا يطرح السؤال نفسه: كيف يمكن أن تصبح مصر أكثر قدرة على جذب الاستثمارات الزراعية؟
في رأيي، لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال إعادة صياغة السياسات المالية برؤية استراتيجية، تبدأ بالاستقرار الضريبي كشرط أساسي. فلا يجوز أن تظل الضرائب عرضة للتغيير المفاجئ، لأن الاستثمار يحتاج إلى أرض صلبة وواضحة. وإذا أردنا تشجيع الاستثمارات الزراعية فعلينا أن نربط الحوافز بالمسؤولية، فنمنح الإعفاءات والتخفيضات لمشروعات الأمن الغذائي أو تلك التي تستخدم تقنيات حديثة في الري والإنتاج.
كما أرى أن التمويل يمثل عصب القضية كلها. فلا يُعقل أن نطالب المستثمر بالدخول في مشروع زراعي يحتاج إلى سنوات كي يعطي ثم نتركه أسيرًا لفوائد مصرفية تثقل كاهله. لذلك يجب أن تُوفَّر آليات تمويل مرنة بفوائد منخفضة وفترات سماح متناسبة مع الدورة الزراعية. فالمستثمر حين يجد أن الدولة تفكر بنفس منطقه وتُقدّر احتياجاته، فإنه يتعامل معها كشريك لا كجهة جباية.
ولا يقل عن ذلك أهمية، في تقديري، تفعيل منظومة التأمين الزراعي، لأن الخوف من الخسارة غير المتوقعة يظل عائقًا أمام ضخ الأموال في هذا القطاع. التأمين الشامل على المحاصيل والثروة الحيوانية ليس رفاهية، بل أمان حقيقي يشجع على الاستثمار ويعزز ثقة المستثمر المحلي والأجنبي معًا.
وأؤمن أن الحل الأمثل يكمن في إقامة شراكات متوازنة بين الدولة والقطاع الخاص، حيث توفر الدولة الأرض والبنية التحتية وتسهيلات النقل والتسويق، بينما يضخ القطاع الخاص التمويل والخبرة التكنولوجية. بهذا الشكل يتحقق التكامل لا التنافس، وتصبح الزراعة مشروع وطن لا مجرد نشاط اقتصادي فردي.
ويبقى العائق الأكبر، من وجهة نظري، هو البيروقراطية التي تُفشل المشروعات قبل أن تبدأ. لذلك أؤكد أن تطبيق مبدأ الشباك الواحد وتبسيط الإجراءات لم يعد خيارًا بل ضرورة، لأن البداية السلسة تمنح المستثمرين الثقة وتدفعهم للاستمرار.
ومن هنا تأتي الرؤية السياسية التي أتبناها داخل حزب الوعي، وهي أن الإصلاح المالي الزراعي ليس مجرد خطوة اقتصادية بل محور أساسي في مشروع وطني للتنمية المستدامة. نحن في الحزب نؤمن أن دعم المزارع والمستثمر معًا هو الضمان الحقيقي للأمن الغذائي ولمكانة مصر الإقليمية. ولذلك ندعو إلى تبني سياسات عادلة لا تُثقل كاهل المستثمر بالضرائب، ولا تترك الفلاح وحيدًا أمام تقلبات السوق. بل نسعى لرؤية متكاملة تجعل من القطاع الزراعي قاطرة للنمو الاقتصادي والاجتماعي، بحيث تعود عوائد الاستثمار بالنفع على الدولة والمواطن معًا.
وهكذا يصبح تحسين السياسات المالية ليس مجرد بند في خطة حكومية، بل خيارًا وطنيًا جامعًا يلتقي فيه صوت الفلاح مع المستثمر، ورؤية الدولة مع طموح المجتمع. وكما تقول الدراما المصرية في حكمتها الشعبية: “لما تكون السياسات عادلة، الأرض بتطرح خيرها.. والمستقبل يبقى أوسع من الحلم”.