تعيش غزة اليوم لحظة سياسية مفصلية تتقاطع فيها الاعتبارات الوطنية والإقليمية والدولية، في ظل مشهد متشابك تتداخل فيه حسابات الأمن والسيادة وإعادة الإعمار، فمع توقيع اتفاق شرم الشيخ وما تلاه من خطوات ميدانية مترددة، باتت الأنظار متجهة إلى كيفية ترجمة التفاهمات على الأرض وتحويلها إلى واقع ملموس يعيد للقطاع توازنه واستقراره.
وقال الدكتور جهاد أبو لحية، أستاذ القانون والنظم السياسية الفلسطيني، إن تعيش غزة في مرحلة دقيقة تتقاطع فيها الاعتبارات السياسية والأمنية والإنسانية، بينما يقف اتفاق شرم الشيخ عند مفترق حاسم بين الانتقال إلى التنفيذ أو الانزلاق إلى التأجيل.
وأضاف أبو لحية- خلال تصريحات لـ "صدى البلد"، أن فبعد تسليم رفات أحد الأسرى الإسرائيليين مؤخرا، ومع بقاء خمس رفات أخرى قيد المتابعة، كان متوقعا فعلا أن يبدأ تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، التي تشكل جوهر العملية السياسية الهادفة إلى تثبيت الاستقرار والانطلاق نحو إعادة الإعمار.
وأشار أبو لحية، إلى أن غير أن هذا الانتقال تعرض للتعطيل بفعل مستجدات سياسية وأمنية أعادت خلط مسار التنفيذ وألقت بظلالها على مستقبل التفاهمات، وأوضح أنه من الناحية الميدانية، مثل تسليم الرفات إشارة إلى اكتمال معظم الترتيبات الأمنية للمرحلة الأولى، التي نصت على انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من المناطق المأهولة تمهيدا لتأسيس إدارة مدنية انتقالية فلسطينية دولية وبدء إعادة الإعمار بإشراف مشترك.
وتابع: " الواقع الميداني الأخير يشي بعكس ذلك، إذ سجلت فجر اليوم تفجيرات واسعة في مناطق متفرقة من القطاع داخل أماكن يفترض أن ينسحب منها جيش الاحتلال مع انتهاء المرحلة الأولى، وهذه الخروقات تعد إشارة خطيرة على وجود إشكالات في الالتزام بالتفاهمات، وتزيد من ضرورة توضيح آليات المساءلة والمراقبة قبل الانتقال الكامل إلى المرحلة التالية، في هذا المناخ أعلنت قيادة المركز المدني العسكري مؤخرا تسلمها مهام تنسيق المساعدات والإغاثة في غزة بمشاركة أكثر من أربعين دولة وهيئة دولية، منهية الدور الإسرائيلي المباشر في إدارة المعابر وتدفق المساعدات".
وتابع: "ويعد هذا التحول خطوة إجرائية مهمة تفتح نافذة لإعادة تنظيم دخول المساعدات، غير أن إجرائية التنسيق وحدها لا تغني عن الانتقال السياسي والإداري الذي ينقل بموجبه القرار إلى هياكل مدنية انتقالية فلسطينية–دولية، شرط أن تكون مشاركة الفلسطينيين فاعلة وجوهرية داخل هذه الهياكل، موازاة مع ذلك، طرحت واشنطن مشروع قرار أمام مجلس الأمن يقضي بإنشاء قوة دولية متعددة الجنسيات تكلف بفرض الأمن وضمان الاستقرار داخل غزة".
وأكمل: "وتشذ هذه الصيغة المقترَحة عن جوهر الاتفاق، إذ لا تقدم قوة مراقبة محدودة المهام، بل قوة تنفيذية مخولة باستخدام القوة والتدخل المباشر في الشئون الداخلية، وضمن صلاحيات قد تشمل مراقبة الأجهزة الأمنية المحلية ونزع سلاح الجماعات المسلحة، وهذا الطابع يجعل منها في الجوهر "قوة فرض أمن" وليست "قوة حفظ سلام" بالمعنى التقليدي، وثمة مخاطر سياسية وقانونية واضحة في هذا الاتجاه".
وأضاف: "فمنح قوة دولية صلاحيات تنفيذية داخل قطاع فلسطيني يهدد مبدأ السيادة الوطنية، وقد يحول المرحلة الانتقالية من مسار تمكين وطني إلى شكل من أشكال الوصاية الأمنية، ويزداد الخطر إذا ظل الدور الفلسطيني هامشيا في صوغ مهل وأطر عمل هذه القوة أو في عضوية المجلس الذي سيشرف عليها، إذ لا يمكن أن يكتمل أي انتقال شرعي من دون مشاركة فلسطينية حقيقية في اتخاذ القرار ومراقبته".
وقال : "لذلك، فإن البديل المنطقي والشرعي يكمن في التمسك بمبدأ فصل المهام، ومنها: نشر قوة حفظ سلام دولية تعمل وفق الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، تختص بمراقبة تنفيذ الاتفاق، وتيسير وصول المساعدات وحماية المدنيين دون التدخل في الشؤون الداخلية، بينما يناط بالأمن الداخلي جهاز شرطي فلسطيني تابع للسلطة الوطنية الفلسطينية، يعمل تحت إطار تنظيمي وإشرافي واضح من قِبَل مجلس السلام وبضمانات دولية".
وواصل: "هذا التوازن يضمن احترام السيادة مع توفير الضمانات الدولية اللازمة لنجاح الانتقال، والمرحلة الثانية من اتفاق شرم الشيخ تقاس بمدى تحويل الوعود إلى واقع، لا بمدى تكرار التصريحات، وتسليم الرفات كان مفصلا رمزيا، لكن الأهم الآن هو الاستجابة للواقع الميداني: وقف الخروقات، تمكين التمثيل الفلسطيني، وضبط الصيغة الدولية لتكون داعمة لا مهيمنة، فبدون ذلك لن تتجاوز المرحلة الانتقالية مفردات القواعد والقرارات، وستبقى غزة مسرحا لتجارب وصاية جديدة بدلا من أن تكون طريقا لاستعادة السيادة والكرامة".
يذكر، أن مستقبل غزة يتوقف على قدرة الأطراف على صون جوهر الاتفاق لا على إعادة إنتاج الأزمات القديمة بثوب جديد، فالمرحلة الانتقالية لن تنجح ما لم تبن على شراكة فلسطينية حقيقية، تضمن السيادة وتفتح الطريق نحو إعادة الإعمار في إطار وطني جامع، وبين ضغوط السياسة ومخاطر الأمن، تبقى المسؤولية الدولية مطالبة بدعم استقرار غزة لا بالوصاية عليها، وباحترام إرادة شعبها لا بتقييدها، فذلك وحده ما يجعل من اتفاق شرم الشيخ محطة تأسيس لا محطة تأجيل، ومن المرحلة الثانية خطوة نحو الاستقلال لا حلقة أخرى في دوامة الانتظار.



