في الصحراء الشرقية، حيث تبدو الجغرافيا قاسية ومقتصدة في عطائها، لا يُقاس الطريق بطوله، بل بما يتيحه من فرص للنجاة.
هنا، لعبت الآبار دور البوصلة الخفية التي أعادت تشكيل حركة الإنسان والحيوان عبر قرون، فكانت الماء والموعد، والملاذ والحَكَم، وحددت إيقاع الحياة على امتداد الساحل الجنوبي الشرقي للبحر الأحمر وحتى التخوم المتداخلة مع السودان.

لم تكن هذه الآبار مجرد حفرٍ في الأرض، بل شبكة متكاملة من المعرفة المتوارثة. خرائطها لم تُرسم على الورق، بل حُفرت في الذاكرة الجماعية للقبائل، تُستدعى عند الحاجة، وتُحدِّد مسارات الرعي، ونقاط التوقف، وحدود الممكن في بيئة لا ترحم من يخطئ الحساب.
ماء بطعم الموسم… ومعيار للحياة
يشرح حسن سعدالله، أحد العارفين بدروب الصحراء، أن الاعتماد على الآبار يخضع لحسابات دقيقة تتغير بتغير الفصول. فهناك آبار تصلح للشرب الآدمي، وأخرى لا تتحملها سوى الإبل، ومع ذلك تبقى جميعها نقاط أمان لا يمكن تجاوزها. على أساسها تُبنى خطط الترحال اليومية، وتُقدَّر المسافات لا بعدد الكيلومترات، بل بعدد المرات التي يمكن فيها ملء القِرب.

هذه المنابع، بحسب سعدالله، كانت في قلب الطرق التاريخية للقوافل القادمة من السودان، تشكل محطات وصل بين وادي النيل وساحل البحر الأحمر، وتحمل في ذاكرتها قصص التجارة والحج والعبور. ومع الماء، نشأ نظام عرفي صارم ينظم الأسبقية وحق المرور، ويُلزم بإغاثة العابر أياً كان انتماؤه.
أمن اجتماعي قبل أن يكون خدمة
من زاوية أخرى، يلفت النائب علي نور، عضو مجلس النواب عن حلايب وشلاتين، إلى أن ملف المياه في هذه المناطق يتجاوز كونه مسألة خدمية، ليصل إلى كونه ركيزة من ركائز الاستقرار الاجتماعي. فحركة الرعي، وإمداد التجمعات النائية، والاستعداد لمواسم الجفاف، جميعها ترتبط مباشرة بحالة الآبار وصلاحيتها.

ويؤكد نور أن الحفاظ على هذه الموارد يتطلب عملاً مستمراً يشمل توثيق المواقع الفعالة، وتسهيل الوصول إليها، ودعم نظم الإدارة المحلية التي تستند إلى الأعراف القبلية، بما يضمن توازناً دقيقاً بين الاستهلاك المستدام والطلب المتزايد على المياه في نطاقات رعوية وحدودية شديدة الحساسية.
أعراف أقدم من القوانين
في مجالس الشيوخ، حيث تُحل النزاعات بعيداً عن الأوراق الرسمية، ما زالت للآبار مكانتها الخاصة. يوضح الشيخ جبريل، أحد مشايخ قبيلة العبابدة، أن القواعد المنظمة للانتفاع بالماء وُلدت قبل التدوين، وحافظت على فعاليتها عبر الزمن. من يُحرم من الماء دون وجه حق، تُنظر قضيته أمام مجلس الشيوخ، وتُستدعى العلامات والوسوم التي تُثبت الملكيات ومسارات الإبل، في نظام يحقق الردع دون أن يمس بحق الضيف أو العابر.
ويضيف أن صيانة الآبار، وتنظيف مجاري التغذية بعد السيول، ليست عملاً تطوعياً، بل واجب جماعي يُعرف بـ«حق الطريق»، تتشارك فيه القبائل مع كل موسم رعي وكل موجة عطش.
أسماء تحولت إلى ذاكرة
على امتداد الساحل، ما زالت آبار بعينها تنبض بالحياة وتحمل أسماء صارت شواهد على التاريخ. يشير آدم سعدالله، من أبناء قبيلة العبابدة في الجنوب، إلى آبار مثل «قومدليم» و«أدلديت» و«شناي»، التي لا تزال تروي الإبل والناس، مقيمين كانوا أو عابري سبيل.

«قومدليم»، كما يروي، لم تكن مجرد مصدر ماء، بل محطة تجمع للقوافل القادمة من السودان، تشرب منها الجمال قبل أن تواصل رحلتها شمالاً. أما «أدلديت»، فرغم ملوحة مياهها، ظلت مقصداً لا غنى عنه للإبل القادمة من عمق الحدود. وبئر «شناي» تحمل اسم محارب قديم، تحوّل إلى رمز لصبر الأرض، وتتناقلها اليوم قبيلة البشارية جيلاً بعد جيل. وفي أقصى الجنوب، تقف بئر «قرت» كأحد أقدم الشواهد على استمرارية الماء في هذه الأرض الجافة.
من صحراء عيذاب إلى زمن الاستعمار
تاريخ هذه الآبار يرتبط أيضاً بالتحولات الكبرى. فالصحراء الشرقية عُرفت قديماً باسم «صحراء عيذاب»، وكانت ممراً رئيسياً للحجاج عبر ميناء عيذاب في طريقهم إلى الأراضي المقدسة. ومع دخول الاحتلال الإنجليزي، تبدل المشهد؛ إذ جرى تعميق عيون المياه الصغيرة بعد اكتشاف الذهب في المناطق المجاورة، وأُعيد ترسيم العلاقة بين الأرض والقبائل، بتحديد نصيب كل منها من الآبار والأراضي.
شرايين لا تزال تنبض
في المحصلة، تكشف آبار الصحراء الشرقية عن نظام حياة متكامل، تتداخل فيه الجغرافيا مع العرف، والتاريخ مع الحاجة اليومية. هي ليست مجرد موارد مائية، بل شرايين أبقت الذاكرة حية، وحملت عبرها القبائل خبرتها في التعايش مع الندرة، لتظل شاهداً على قدرة الإنسان على بناء نظام عادل وسط أقسى البيئات.


