الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

الجلوس على فوهة بركان نشط!!


كلما سعيت لأن أفارقَ شاطئ الكتابة عن السياسة، أجدهُا تجذبني من تلابيبي بعنف، وكأنها قدرٌ لا مفر منه، ولعل "السياسة" محقة، فهذا القدر لم يختطفني بقدر ما اخترته بإرادتي، فلم أتَهته متعلمًا القراءة وأنا فتى غض بين سطور حكايا الأطفال ليعقوب الشاروني أو هانز أندرسن، بل تعلمتها عبر مانشيتات الصحف العريضة حول تفكك الاتحاد السوفييتي وحرب تحرير الكويت.

كما لم تزدان جدران غرفتي وأنا صبي يافع بصور زين الدين زيدان وروبرتو كارلوس ونجوم الكرة حينئذٍ، بل تزينت بصورتي الزعيم جمال عبد الناصر، ووزير الخارجية العتيد حينها عمرو موسى، وحين التحقت بالجامعة شابا طامحا فضلتُ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لأكون أحد خريجيها، فالسياسة طريقٌ، لم أسر فيه مدفوعًا، بل تخيرته من بين عشرات الطرق أمامي، لذا فإن كان علي لوم أحد، فلا ألومن إلا نفسي!!

كان مقدرا لهذا المقال أن يكون "اجتماعيًا"، والعديد من الظواهر الإنسانية حولنا تستحق تسليط الضوء عليها، إلا أن زيارة قصيرة إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بجامعة القاهرة، لحضور إحدى الندوات، ساهمت في تحويل مسار المقال ليغدو "سياسيًا" كالعادة، غارقًا في "التحليل" على النحو الذي يبدو جديرًا بدارس للعلوم السياسية، ابتله مجال العمل في السياسة، حيث استدعت الزيارة إلى ذاكرتي صورا لمواقف ترتبط بفترة دراستي بها، وأخرى تحضرني بعد مغادرتي لها.

ولجت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية لأول مرة عام 2003 بينما وجه العالم يتغير، حيث شهد هذا العام السقوط المدوي للعاصمة العراقية بغداد، أولى قطع الدومينو في المنطقة العربية، التي تهاوت فدفعت أمامها بأعوام قليلة: دمشق، وطرابلس، وصنعاء، وأوشكت أن توقع بتونس، والقاهرة.

وكان تعلم "السياسة" خلال السنوات الأربع التالية لهذا التاريخ، أشبه بالجلوس لدراسة بركان أثناء نشاطه وفورانه، فشبكة العلاقات الدولية تتغير طبيعتها، وتحالفات جديدة تظهر وأخرى تندثر، والقوة الناعمة تخوض اختبارًا شديد القسوة أمام التدخل العسكري الأمريكي السافر عقب أحداث 11 سبتمبر 2001.

وعقب تخرجي وزملائي بـنحو 4 أعوام، اندلعت ثورة 25 يناير التي غيرت بدورها وجه الداخل المصري، حيث فرضت آثارها على النظام السياسي كله، ظهور فاعلين جدد (المؤسسة العسكرية، النشطاء السياسيون، الجماعات الإسلامية)، وغياب آخرين (الحزب الوطني الديمقراطي)، الحكومات تتعاقب دون توقف، والبرلمان يغدو بغرفة واحدة هي "مجلس النواب"، والأحزاب السياسية تتكاثر لتناهز المائة حزب، والرئيس يحكمُ لفترتين فقط، ويشاطرُ الصلاحيات بإرادته مع الحكومة والبرلمان، وظواهر اجتماعية واقتصادية بعضها مازال يفرضُ آثارها على الواقع المصري حتى الآن.

بضمير مطمئن، يمكنني القول إن أغلب ما درسته وزملائي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، بات منتهي الصلاحية، وذلك خاصة فيما يتعلق بالنظم السياسية، والعلاقات الدولية، الأمرُ الذي يفرضُ عبئًا كبيرًا على علماء السياسة لاستيعاب هذه التغيرات، واعادة صياغة ما يقدم للطلاب في ضوء ما يستجد، وعندما أتحدث عن أستاذة العلوم السياسية، أجد نفسي مدفوعًا لأن أطرح أمامكم عددًا ممن تقليت على يديه العلم في كلية الاقتصاد، والذين لم نعلم سوى بعد عام 2011 حجم التباين الذي يتجلى في خلفياتهم الثقافية وأفكارهم وتوجهاتهم، حيث كانت المنظومة التعليمية المنضبطة قبل هذا التاريخ، تفرضُ عليهم التزام الموضوعية، على النحو الذي لم يسمح لأحدهم أن يصبغ بلونه الثقافي والفكري ما يقدمه لنا من علوم، ثم جاء عام 2011، ليخرج كلُ منهم من جرابه ما كان يخفي من أفكار، وياما في الجراب يا حاوي.

فبينما كان انتماء الدكتور علي الدين هلال، والدكتور صفي الدين خربوش، والدكتور محمد كمال واضحًا للحزب الوطني الديمقراطي المنحل، في ضوء مناصبهم في الدولة والحزب، فقد ظهر الدكتور حسن نافعة، كـ "عفريت العلبة"، المعارض لكل الأنظمة، غير ظهوره عدة مرات في تجمعات سياسية بتركيا تخدمُ مصالح جماعة الاخوان الارهابية، ثم كانت صدمتي كبيرة في الدكتور سيف الدين عبد الفتاح، والدكتورة باكينام الشرقاوي، اللذين تم اختيارهما في أغسطس 2012 كأحد أعضاء الفريق الرئاسي للرئيس المعزول محمد مرسي، كما لا نملك تجاوز الظهور اللافت للدكتور عمرو حمزاوي، الذي وصل لرئاسة حزب مصر الحرية، وغدا عضوا بمجلس الشعب في انتخابات 2012، قبل أن يتوارى في غياهب النسيان، وكذلك الدكتور معتز عبد الفتاح، الذي أغوته أضواء الإعلام أكثر مما كان مفتونًا بمقعده الأكاديمي.

بقدر ما أفخر بانتمائي إلى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وأشرف بجلوسي يومًا ما على مقعد التلميذ أمام هذه الكوكبة من الأساتذة باختلاف أطيافهم الثقافية والفكرية، فإنني ألومُ عليهم، لومَ عتاب، فالانضباط الذي كانت عليه النظريات والأفكار السياسية التي تلقيناها منهم كان وهمًا، فلستُ أتذكرُ أن أحدهم قد تنبأ بأن مصر على فوهة بركان، وأن الوضع سينفجر قبل مرور 4 أعوام فحسب من مغادرتنا لباب الكلية، وأن حدثًا واحدًا كـ ثورة 25 يناير، كان كفيلًا بنسف كل النظريات والأفكار، وجعل كل ما تعلمناه، أثرًا بعد عين.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط