الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

صلاح عطية.. فيلسوف العطاء (1/4)


على الرغم من مرور ثلاثة أعوام على رحيل المهندس صلاح عطية (رحمه الله) رائد فلسفة العطاء في أسمى معانيه، وفيلسوف التنمية بمعناها الحضاري الشامل، ومبدع الاستثمار الحقيقي في عالم البشر.. فإن الذاكرة الجمعية للأمة لن تجرؤ على أن تطوي سيرة هذا الإنسان مهما مر على رحيله السنون والدهور.

ففي بقعة طيبة على مقربة من قرية "دقادوس" مسقط رأس الشيخ/ محمد متولي الشعراوي (رحمه الله)، وُلد صلاح مصطفى عطية، يوم 18 مارس 1946م، بقرية صغيرة تبتعد عن القاهرة بـ 120 كم، تسمي "تفهنا الأشراف" إحدى القرى التابعة لمركز ميت غمر من أعمال محافظة الدقهلية بجمهورية مصر العربية، والتي شهدت أيضا جنازته يوم الاثنين غرة ربيع الآخر 1437هـ / 11 يناير 2016م، وقد وصفت بأنها أضخم جنازة في التاريخ.

وعندما جلستُ -بصحبة الراحل أ.د/ جعفر عبد عبد السلام رحمه الله- مع ذويه يوم وفاته، أخبرونا بأنه أوصى قبل الوفاة بأن يقتصر العزاء على تشييع الجنازة... يا الله!! لقد غرس الله تعالى التواضع واللين والرفق والرحمة في قلب هذا الرجل.. لا يريد أن يُتعب أحدا في عزائه بعد موته، ولم يكن أبدا يحب الظهور متمثلا القول المأثور: "من أراد الظهور فهو عبد الظهور، ومن أراد الخفاء فهو عبد الخفاء، أما من أراد الله وهو عبدٌ له، فهو الذي إذا شاء أظهره وإذا شاء أخفاه".

فالرجل (رحمه الله) كان ينفق في خفاء، واضعًا قول النبي (صلى الله عليه وسلم) أمام عينيه: (..ورجل تصدق بصدقة فأخفاها، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه..) ولقد أخلص الرجل –رحمه الله- لربه عز وجل، فأكرمه الله في الدنيا، وجعل وفاته وجنازته التي تمت سريعا حديثا للدنيا من كثرة عدد المشيعين.

وكان من حسن حظي أن التقى الراحل عشرات المرات، وعندما كنت أسلط ناظريَّ على وجهه، أجد فيه البساطة والأصالة والتواضع والحياء والصدق والوضوح، وأشعر أننا بإزاء رجل من التابعين أو ولي من أولياء الله الصالحين.

ولن تفارق ذاكرتي هرولته وإسراعه في مشيته وإنحنائه وهو يسير في اتجاه العمال والفقراء والمساكين وأصحاب الحاجات... وغيرهم ممن كانوا يصطفون في المكان الذين يعلمون أنه سيأتي إليه -وكان من ضمن هذه الأماكن مقر عملي السابق في رابطة الجامعات الإسلامية بجامعة الأزهر بمدينة نصر- كانوا في انتظاره، وأمانيهم معلقة على مجيئه رحمه الله، وكان ينظر إليهم بفرح وسرور منقطع النظير.. يطبطب عليهم.. ينحني لهم.. يضع يده في أيديهم ويسير بهم... فيقضي حاجاتهم (زواج بناتهم – علاج مرضاهم- سداد ديونهم – إنفاق على مصاريف المدارس – تسليم بعضهم شققا سكنية... وغيرها كثير)، وتجد السعادة ملء وجهه، وهو يحنو عليهم، ويفرح بهم وكأنهم أولاده، حيث لم يكتب الله تعالى له الولد.

البداية.. ونقطة التحول:


وعندما نتحدث عن البداية فلابد أن نعود بالتاريخ إلى الوراء، فمنذ أكثر من أربعين عامًا، كانت القرية التي ولد فيها، قرية فقيرة معدمة، وكان معروفًا عنها أنها بلد الأنفار "عمال التراحيل" الذين يخرجون مع إشراقة شمس كل صباح للعمل فى حقول القرى الكبيرة المجاورة سعيًا وراء تحصيل الرزق، بل كان سائقو سيارات الأجرة لا يتوقفون أمام القرية وكأنها ليست على الخريطة..! عاش الشاب هذا الوضع المأساوي، وذاق مرارة الفقر، وظلَّ يكافح في تعليمه بجهود مُضْنية من والديه الفقراء رحمهما الله، حتى أنهى تعليمه وأصبح مهندسًا زراعيًّا.. وظلَّ خلال فترة صباه وشبابه يقلب ناظريه وفكره في هذا الوضع، وكيف يقضي عليه، حتى لا تعيش الأجيال القادمة مرارة العيشة التي ذاقها هو وأقرانه وقتذاك..

ذهب الشاب مجندًا في القوات المسلحة هو وأصدقاؤه من شباب القرية والقرى المجاورة، وقد طالت فترة تجنيدهم بسبب الاستعداد لحرب أكتوبر1973م، وبعد النصر، خرجوا ليضارعوا الحياة، وسعوا لعمل مشروع إنتاجي يتكسبون منه، وفي النهاية استقر الأمر على إنشاء مزرعة دواجن.

يقول المهندس صلاح عطية (رحمه الله): بعد صلاة عصر يوم الجمعة 3 ربيع الثاني 1404هـ / 6 يناير 1984م نظمنا اجتماعًا عامًّا لأبناء القرية، وترأس الاجتماع عمدة القرية الحاج محمد فكري القرموطي، وتحدثت وأخي المهندس صلاح خضر، وأعلنا عن فكرة إنشاء مركز إسلامي متكامل بالبلدة، يشارك في إنشائه كل أبناء قرية تفهنا الأشراف، وتم الاتفاق على الآتي:

أن تكون القرية عائلة واحدة، لها قيادة جماعية واحدة، وتسمى بعائلة الأشراف، - اختيار عشرين رجلا يمثلون قيادة القرية تحت قيادة عمدة القرية برضا الجميع، - يتولى المركز الإسلامي تنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من مشروعات خيرية من خلال لجان عمل: إحداها للتعليم، والأخرى للزراعة، ولجنة للشباب، ولجنة للصحة، ولجنة للمصالحات، ولجنة للزكاة‏.‏ ثم كانت مرحلة التنفيذ، وركزنا على أهمية جمع الزكاة كخطوة أولى لمعالجة الفقر..

وقام تسعة من الشباب الذين تعارفوا خلال فترة التجنيد بالقوات المسلحة على رأسهم المهندس صلاح عطية بإنشاء مزرعة للدواجن بعد انتهاء فترة تجنيدهم تكلفت ألفي جنيه، وخلال كتابة عقد الشركة قرروا تخصيص نسبة‏ 10%‏ من الربح لإنفاقها في وجوه الخير‏ وسموها "سهم الشريك الأعظم" وكانت هي بداية قصة هذا التحول. تم كتابة عقد الشركة بين عشرة شركاء على رأسهم المولى عز وجل (ولله المثل الأعلى) يأخذ عُشر الأرباح 10% تيمنا بالرعاية والحماية من الأوبئة وتنمية المشروع، وتم تسجيل العقد بالشهر العقاري، 

وعندما وجد الشباب حصيلة الربح كبيرة جدًّا وأكثر مما كانو يتوقعون، قرروا زيادة نسبة "سهم الشريك الأعظم" إلى ٢٠ %‏ من الربح في الدورة التالية شكرًا لله على ما تحقق من حصيلة كبيرة‏،‏ وكان نتاج الدورة التالية من الإنتاج غير مألوف، فقرروا زيادة نسبة "سهم الشريك الأعظم" لوجوه الخير من الربح إلى ٣٠ %‏ وتكرر النتاج الكبير في الدورة التالية فزادوا النسبة إلى ٤٠ %وهكذا استمرت الزيادة إلى أن أصبحت 100%. ومع الوقت توسع المشروع حتي بلغ عَشر مزارع.

وبدأ التفكير في إنشاء مصنع للأعلاف، ثم مصنع للمركزات، تلاه التعاقد لشراء أرض بمنطقة الصالحية لزراعتها وتصدير المحاصيل المنتجة إلى عدد من دول العالم... وهكذا وفي النهاية تم الاتفاق على أن المشروع كله لله وأن المهندس صلاح تحول من شريك في المشروع، إلى موظف عند الله تعالى، يتقاضى مرتبًا لكنه طلب من ربه ألا يفقرهم إلا إليه، ولا يحوجهم إلا له سبحانه وتعالى... وللحديث بقية ... 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط