الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

رضا نايل يكتب : رائحة القهوة

الكاتب الصحفي رضا
الكاتب الصحفي رضا نايل

فتحت نافذة مكتبها لعلها تراه قادمًا، فرأت الشمس تصعد بطيئة من بين العمارات المُرتفعة المتدثرة بضباب كثيف يحجب الرؤية كما تحجب الأيام البعيدة وجهه، الذي تراه قادمًا في ذاكرتها.. فترتبك وتعبث بأصابعها.. وجهها يصير بلون الأقحوان، وهي تراوغ بعينها التي التقطت له صورة خاطفة، في أول يوم عمل لها، ببشرته البيضاء، وقوامه الطويل، ضيق الخصر، مُتسع الصدر، وبداخلها إحساس يلح عليها أنها رأته من قبل.. ولكن أين.. ربما في الأحلام؟

ويزداد ارتباكها.. ورأسها تتضارب فيها الأفكار مُحاولة البحث عن رابط للتعارف، فتفاجئها تلك الرائحة المُنبعثة من فنجان القهوة الذي يحتضنه بين أصابعه خوفًا على "وش القهوة" من أن يتلاشى في الفنجان.

- رائحة القهوة جميلة جدًا.. هكذا قالت، وهي تجفل آخذة شهيقًا في نشوة ولذة، وابتسامة رقيقة تزهر على شفتيها.

قال وهو يبتسم:
- أنتِ تحبين القهوة.. تفضلي ولو تحبينها سادة.
- أنا عمري ما شربت قهوة، ولكن أحب رائحتها جدًا.
- عن نفسي القهوة محبوبتي الوحيدة.. وكلما أشرب فنجانًا أمر عليكِ، أنتِ تشمين الرائحة وأنا أشرب والحساب بالنصف.

قالت في نفسها، وابتسامتها تكبر فتنساب على شفتيها ضحكةً رقراقةً عذبةً : 

- يا لرائحة القهوة التي أذابت الجليد.

ومن ذلك اليوم صارت دائما تنتظر رائحة قهوته، حتى اختلط الاثنان فلم تعد تعرف من تنتظر...رائحة قهوته أم تنتظره هو؟
فعندما تراه قادما نحوها ممسكا بالفنجال الذي يعد بنفسه في "البوفيه" تشعر بإحساس لذيذ تكون دائمًا راغبة في الاستزادة منه.. إحساس ينساب داخلها كموج البحر، فيجعلها صافية نقية كسماء في صباح شتوي قد اغتسلت بالأمطار المشجية، فبدت زرقاء صافية، وأطلت شمسها لتغسل أشعتها في أبخرة المطر المُتصاعدة.

أعادها الضجيج خارج مكتبها من الماضي وهي تستحضر ذلك الإحساس.. فأغلقت نافذتها والشمس عاجزة على أن تبدد طبقات الضباب الكثيفة التي تلف الأفق، وفتحت باب المكتب وعلامات الضجر والضيق تكسو وجهها.. من أنه لن يأتي للعمل اليوم أيضًا، ولن يأتي أبدا فقد غاب بين الأمواج العاتية لذاكرة الأيام حيث ينتهي به الأمر إلى قاع النسيان، إلا هي فسوف تظل مسكونة به فقد ذاب حبها الفطري لرائحة القهوة، وحبها له وصار الاثنان جزءًا من طبيعتها.

- فمنذ أيام كانت هناك مظاهرة ضخمة وكتبت رصاصة اسمه بين تلك القائمة الطويلة لأسماء الشهداء.. هكذا سمعتهم يقولون في حزن وألم.
انطلقت منها بلا إرادة صرخة مدوية، وأحست أن قلبها يطحن بين حجري رحى، وخيمت على عينيها سحابة سوداء امتزجت فيها المرئيات، ومادت بها الأرض وتمايلت فسقطت مغشيًا عليها.

تجمع الزملاء حولها يحاولون إفاقتها وعلامات الدهشة والقلق قد علت وجوههم من ردة فعلها عند سماعها الخبر، فأحزانها وآلامها كانتا إعلانًا لما حاولت كتمانه.

غادرت مكتبها ولم تعد إليه أبدًا.. وفى أول يوم عمل لها في مكان جديد فتحت نافذتها فرأته قادمًا يحمل فنجان قهوته إليها.


رضا نايل
لقراءة المجموعة كاملة اضغط على الرابط التالي: