الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

لا إبداع دون قراءة


ما أكثر تلك المواهب التي اندثرت ولم يعلم عنها العالم شيئا، وما أكثر تلك الإبداعات التي حرمت منها البشرية، لأن هناك الكثير من المواهب طمستها الأيام، ولم تظهر للنور، وما أعظم تلك الخسارة التي لحقت بالبشرية لأن مواهب لم تتعرف على الطريق التي تسلكها لتمنح البشرية من الإبداع ما يعد زادا تتزود به الإنسانية عبر التاريخ.

إن الإبداع هو قمة هرم الثقافة، والقراءة هي القاعدة لهذا الهرم، فلا ثقافة يمكن أن تصل إلى قمتها لأبناء دولة من الدول أو أمة من الأمم دون أن تتحصل هذه الدولة أو تلك الأمة على مواهب إبداعية تنتج قريحتها الفنون المختلفة وتعبر عن التجارب الإنسانية المتمايزة، ولا يمكن- مهما امتلكت هذه الأمة من مواهب - أن تضيف للثقافة والفنون إلا إذا اتخذت من القراءة وسيلة للثقيف والتحصيل والصقل، ليكتمل بناء الهرم الثقافي الإبداعي.

إن أول ما يضمن للموهبة الحياة، ويرهص باستمرارها هو الصقل، ذلك الصقل الذي يتخذ أشكال مختلفة، وله وسائل متنوعة، القاسم المشترك بينها جميعا هو القراءة، فمهما كان المجال الذي نبتت له الموهبة، فإنه لابد أن يكون للقراءة نصيبا في نموها وسهما في اكتمالها.

والغالبية الساحقة في كافة المجالات الإبداعية تمثل القراءة فيها الزاد الرئيسي، والوسيلة الأهم لاكتمال الموهبة، ومن هنا فإننا نستطع القول جازمين أن على من يمتلك الموهبة أن يكون شرها في فعل القراءة المطلقة، ثم يكون أكثر شراهة في مجال الموهبة التي منحه الله إياها، إن أراد حقا أن يأتي بالجديد في مجاله، وإن أراد صدقا أن ينظم في عقد المبدعين.

لا يمكن لدولة أو أمة أن تخطو خطوات حقيقية في طريق التقدم إلا إذا تمتع شعب هذه الدولة وأبناء هذه الأمة - وفي مقدمتهم الأدباء والمبدعون والمواهب - بالثقافة المناسبة للعصر الذي يعيشون فيه.

وتظل القراءة هي الوسيلة الوحيدة للمعرفة الحقيقية والعميقة، ولا سبيل آخر لذلك، ولا يمكن لأية وسيلة أخرى أن تحل محل القراءة في التثقيف الحقيقي، ولا في صقل المواهب، ولا بالوصول إلى آفاق بعيدة في المعارف.

والقراءة الدقيقة في أي فرع من الفروع ليست بالأمر الهين اليسير، بل هي في حاجة إلى جهد كبير يزوَّر عنه الأغلبية من بني البشر، حيث إنها تحتاج إلى تركيز شديد، وإعمال فكر عميق، وحضور ذهن متوقد، ذلك الذي لا يستطيعه العوام من البشر، فضلا القراء البسطاء.

يظن البعض -واهما- أنه يمكن الاستغناء عن القراءة، أو استبدالها بأداة أخرى للمعرفة، خاصة بعد ظهور المذياع في نهاية القرن قبل الماضي وانتشاره بقوة شديدة في القرن الماضي، الذي شهد أيضا ظهور التلفاز الذي ظن البعض أنه قد يكون بديلا للمعرفة عن القراءة، وجاءت الثورة التكنولوجية الهائلة في مجال الاتصالات وتقنية المعلومات ليظهر أنواع أخرى تصلح لأن تكون مجرد أداة لمعرفة المعلومات، تلك التي يتخطاها بكثير فعل القراءة.

إن فعل القراءة هو عمل متكامل يحياه القراءة حياة كاملة، تلك الحياة التي تُنْتَزع روحها انتزاعا من أية وسيلة أخرى يظن البعض أنها يمكن أن تكون عوضا عن القراءة، التي لا يمكن لأمة من الأمم تهملها أن تجد لها موطئ قدم في عالم اليوم الذي يعلي من قيمة العمل المبني على العلم الدقيق والمعرفة العميقة التي لا سبيل لها إلا من خلال فعل القراءة.

إن هناك العديد من الأسباب تجعل الشباب وغيرهم يعزفون عن القراءة الجادة، منها ما هو جهل بأهمية القراءة، ومنها ما هو نفسي بعدم القدرة على إلزام النفس على ممارسة القراءة، ومنها ما هو اجتماعي في عدم وجود بيئات ثقافية مناسبة، ومنها ما هو لوجستي في ندرة المكتبات العامة في العديد من الأماكن خاصة القرى والعزب الصغيرة، ومنها ما هو اقتصادي متمثلا في ارتفاع سعر الكتاب في ذات الوقت الذي تقل فيها كثيرا الدخول في العديد من أقطارنا العربية، ومن ثم يكون من الصعوبة بمكان إيجاد مكتبة منزلية يعود لها أبناء الأسرة حال استطاع الأبوان غرس قيمة القراءة في نفوسهم.

إن عدم الفهم والوعي بأهمية القراءة في حياة الفرد والجماعة، يعد سببا هاما في العزوف عن القراءة، فكثير من الشباب، بل ومن الكبار أيضا، يتساءل كثير عن جدوى القراءة، في ظل تلك المقاييس المعروضة في مجتمعاتنا عن مفهوم الشخص الناجح التي لا تضمن، ولو جزئيا، الثقافة والمعرفة.

ويظل أهم الأسباب عندي في العزوف عن القراءة هو عدم فتح المجال للمثقفين الحقيقيين في مجتمعاتنا العربية، وعدم الاحتفاء بما يليق بهم، ليصبحوا غرباء عن مجتمعهم، عديمي التأثير في بيئاتهم، قليلي الأهمية بالمقارنة بغيرهم من أصحاب المال أو المواهب في المجالات الأخرى كالرياضة أو التمثيل، ذلك الذي يعطي إيحاء بل ويرسخ مفهوما بعدم جدوى أن يصبح الشخص مثقفا، حيث إن المنفعة الذاتية تظل أحد عوامل الدفع نحو أي فعل ومنه فعل القراءة. التي هي السبيل الوحيد أمام المبوهوبين للعمل على اكتمال موهبتهم.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط