الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

محمد حسنين هيكل.. الحاكم بأمره في بلاط صاحبة الجلالة


ألف وصف أطلق على "الأستاذ" محمد حسنين هيكل، في حياته، وألف هجوم تعرض له الرجل طوال عمره المديد، الذي امتد لنحو 92 عامًا حتى وفاته في عام 2016، لكن تكسرت النصال على النصال أمام قامة هيكل وعبقريته وأستاذيته في الصحافة والسياسة، ولا أعتقد ان أحد سبقه لشهرته أو أن أحد سيطول قامته الصحفية مرة أخرى سواء في مصر أو في العالم العربي.

"هيكل الذي لا يعلى عليه"، جملة قالها لي بائع مخضرم للصحف قبل نحو 27 عامًا، عندما وقفت مندهشا أمام كتابه ذائع الصيت وقتها وبعدها "حرب الخليج.. أوهام القوة والنصر" وتعجبت آنذاك من ثمنه الغالي، فقال لي جملة موجزة،"ده هيكل.. لا يعلى عليه" وبالفعل مرت نحو ثلاثة عقود قرأت فيها كل كتب الأستاذ هيكل ومقالاته منذ عام 1992 وحتى وفاته عام 2016، وكل ما كتب عنه، والحوارات التي أجريت طوال هذه السنوات معه.

وتبين لي أن الوصف الذي اطلقه بائع الصحف على الرجل، هو وصف صحيح، فهيكل لايعلى عليه فعلًا.

وأنا إذا اكتب اليوم مقالا عنه، فأنا افعل ذلك بخشوع شديد، لأن مقام هيكل – رحمه الله- ليس مثل أي مقام.

فهو هيكل وكفى، ولم تخطئ أبدا جامعة "كامبريدج" البريطانية العتيدة عندما أطلقت عليه في حياته "الأسطورة الحية التي تمشي على قدمين".

حفر الأستاذ محمد حسنين هيكل في الصحافة نهرًا خاصا به، لم يستطيع أحد ان يحقق مثله، ولو ادعى الكثيرون من الأساتذة والزملاء، ليس فقط بسبب أسلوبه الساحر الذي تقرأه فتحس أن الكلمات ليست كالكلمات، وان الرجل يكتب بلغة صوفية وأدبية وسياسية وصحفية غير مسبوقة ولا معلومة، وكأنه اختص لنفسه أسلوبا لا يقربه أحد. وقد كان ولا يزال "أسلوب هيكل" هو ميزته المتفردة الأولى.

وليس فقط لأنه كان في زمنه صاحب المعلومة الأضخم والأكبر والتي لا يطاوله أحد في طرحها أو جرأتها، أو النقد اللاذع الذي لا يمكن لأحد أن يوجهه الى السلطة. ولا يزال الكثيرون يتذكرون العبارة ذائعة الصيت التي أطلقها ضد حكم مبارك، عندما قال في أخر محاضرة له في معرض الكتاب عام 1995، ان التصرفات التي تصدر عن النظام في مصر، تؤكد انها سلطة شاخت فوق مقاعدها. وكررها في رسالته لنقابة الصحفيين في جميعيتها العمومية الشهيرة في ذلك العام احتجاجا على حبس الصحفيين. وقد كانت العبارة مرعبة قبل نحو 15 عاما من سقوط مبارك.

كما لا ينكر أحد انه أول من نبه للتوريث وحذر منه في محاضرة شهيرة في الجامعة الأمريكية، لا يزال الكل يتذكر صداها والزلزال الذي فعلته عام 2002، أي قبل ثورة يناير بنحو 9 سنوات كاملة.

هيكل في زمنه وطوال 7 عقود كاملة أقام الدنيا وأقعدها بمقالاته وأحاديثه وكتبه.

واليوم وأنا اكتب عنه فأنا أتوقف امام أربعة محطات كبرى في حياة الأستاذ هيكل.

الأولى من موقعه كصحفي، وقد ظل يفتخر طوال حياته أنه مجرد صحفي، لأنه كان يفهم الصحافة على قيمتها وحقيقتها، وهى فن أخبار الناس بالوقائع والأحداث وتقديم المعلومة ومتابعتها. وكان الظهور الصحفي لهيكل ظهورا مدويًا منذ بدء عمله المهني، وليس حقيقيا كما ادعى البعض ان فترة ارتباطه بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، هى التي مكنته من تقديم المعلومة وصياغة الخبر الساخن، لأن الرجل ظل مصدرا للخبر حتى بعد رحيل عبد الناصر بـ 50 سنة، وكان أنتوني ناتنج "وزير الدولة للشؤون الخارجية البريطانية في وزارة أنتوني إيدن" صادقا للغاية ومحقًا عندما قال ضمن برنامج عن محمد حسنين هيكل أخرجته هيئة الإذاعة البريطانية، ووضعته على موجاتها يوم 14 ديسمبر 1978 في سلسلة "صور شخصية" أنه: عندما كان قرب القمة كان الكل يهتمون بما يعرفه... وعندما ابتعد عن القمة تحول اهتمام الكل إلى ما يفكر فيه.

وفي هذه النقطة تحديدًا، اذكر وهذا موجود في كتب ومقالات منشورة لهيكل، ويعاد طبعها حتى اللحظة، أن هيكل هو الذي قدم معلومات مثيرة وجديدة وغير معروفة لأحد عن رؤساء وزعماء كثر حول العالم، وفي مقالاته التي كانت تنشرها مجلة "الكتب وجهات نظر" التي كان يصدرها الناشر إبراهيم المعلم في أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، كتب هيكل مقالات مدوية عن الملك حسين، ملك الأردن السابق، والملك الحسن الثاني ملك المغرب والزعيم معمر القذافي، وكتب بحق ما يقال انها أساطير في كتابه الشهير" المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" عن رحلة الصراع العربي- الإسرائيلي، وما كان يدور في الكواليس عبر هذه الرحلة المثيرة في الدراما السياسية العربية، وكشف مواقف الجميع من القضية. وفي هذا الجزء الثالث بعنوان"سلام الأوهام" توقف أمام رحلة أوسلوا، وادوار ياسر عرفات ورابين وشيمون بيريز ونتنياهو وكثيرين.

ولا أخجل أن أقول أنه بموت هيكل، لم يظهر مقال سياسي حقيقي لا في مصر ولا في الوطن العربي يتيح معلومة سياسية ضخمة. وكلها ومع اعتزازي بكل الأساتذة " طنطات فارغة" ولف ودوران دون معلومة كبرى يمكن البناء عليها وتداولها.

كان يقال في زمن هيكل، ومن كل من انتقدوه أنه أصبح الصحفي الأوحد، لأنه كان بجوار عبد الناصر، لكن السؤال الذي ظل يشغلني، ولماذا ظل الصحفي الأوحد والأكثر شهرة عالمية بعد وفاة عبد الناصر بـ 50 سنة، وكانت كتبه تطبع بعشرات اللغات وتوزع مئات الآلاف من النسخ داخل مصر وفي كافة أنحاء العالم العربي والغربي.

السر أن العالم كله عرف قيمة هيكل، وقوة معلوماته وقوة مصادره الصحفية وقوة اطلاعه حتى اصبح أحد أهم صحفيي القرن العشرين بلا منازع. وكان يصنف ضمن أهم 11 صحفيا على مستوى العالم من حيث رواج كتبهم ومقالاتهم.

في رحلة هيكل الممتدة يمكننى التوقف أم عطائه في جريدة "الأهرام"، وما أسسه هيكل في الأهرام، وما صنعه للأهرام بجعلها واحدة من أهم عشر صحف في العالم وقت رئاسة تحريرها، وطوال 17 سنة كاملة على رأسها من عام 1957-حتى عام ، 1974 قصة تستحق أن تروى وحدها، وقد رويت من قبل ويمكن تذوق الدروس والعبر منها مجددًا، في كيفية جعل صحيفة مصرية صحيفة عالمية بامتياز يتابعها العالم.

ولذلك كان قرار الرئيس السادات، في إخراج هيكل من الأهرام بعدما انتقد لقاءاته مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق والأشهر، قبل توقيع معاهدة السلام حدثا عالميًا مزلزل اهتزت له أربعة أنحاء الأرض وعلقت عليه كل وكالات الأنباء.

واذا كانت كتب هيكل، هي ميدان نجوميته وشهرته العالمية المدوية، فإنه من الصعب بصراحة شديدة اختيار او انتقاء كتابين او ثلاثة منها للتعليق عليها في هذا المقال الموجز، لأنها كلها كتب موزونة ترجمت لمختلف لغات العالم، لكني سأتوقف أمام المجموعة الشهيرة حرب الثلاثين سنة (ملفات السويس- سنوات الغليان- الانفجار- اكتوبر 1973 السلاح والسياسة) وهى كتب بها من الوثائق والتأريخ لفترة هامة ممتدة في مصر منذ الخمسينات إلى الثمانينات ما لايمكن وصفه، كتب سياسية عالمية بالمعنى المتعارف عليه، فهيكل يقدم المعلومة لقارئه بأسلوب ساحر وقوة هائلة في الربط بين الاحداث قديمها وجديدها، وعليه ساعاتها أن يحدد وجهته.

وبشكل شخصي فأنا احب كتابيه، "خريف الغضب" عن الرئيس السادات، وبالطبع الزوابع والعواصف التي اثيرت حوله غير مسبوقة ويعلمها الجميع، كما أحب كتابه عن "حرب الخليج أوهام القوة والنصر"، وفيه من المعلومات والعبر والرؤى ما لايمكن وصفه.

وفي الحديث عن محمد حسنين هيكل، لايمكن إغفال انه ساهم في صنع سياسة مصر طوال عقود، وكان قربه من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وبعده الرئيس السادات لسنوات مثال حي على ذلك، لكن ما أرفضه حقيقية، ويرفضه أي منصف أن يتطاول أحد على هيكل، وهذا من دافع حبي له أولا، ومن دافع قامة هيكل كأحد أساطير النهضة الثقافية والصحفية في مصر طوال القرن العشرين، أن يقول ان هيكل كان يكتب إفكا او يردد ضلالات!

ويقفون أمام وصفه لهزيمة عام ،1967 بأنها نكسة وليست هزيمة، وأنا طبعا أراها كانت ولا تزال هزيمة ثقيلة لمصر وسوريا والأردن وفلسطين، لكني أقبل بلفظة، نكسة التي خطها هيكل وعاشت لعقود، لأنه عاش زمن الهزيمة، وعاش وقت الاعداد لنصر أكتوبر العظيم، وكتب التوجيه الاستراتيجي للحرب بقرار من الرئيس السادات، والخلاصة أن لفظة النكسة ترفض الاستسلام الكامل، ومواصلة خوض المعركة مع إسرائيل حتى تحقيق النصر. وقد تحقق هذا فعلا بعد 6 سنوات من الهزيمة، فهيكل لم يكن يغيب شعب، ولكنه كان يستثير حماسة وطنية وعسكرية كانت ضرورية لتحقيق النصر.

ومن المعارك إلى الكتب إلى المواجهات، إلى قصته هو نفسه وهو أحد بارونات الصحافة المصرية والعربية، وفي رأيي هو أكبر اسطورة شهدتها الصحافة طوال القرن العشرين، سيظل هيكل هو الحاكم بأمره في بلاط صاحبة الجلالة، وكما كان في حياته، ستظل مدرسته الصحفية حاكمة بعد وفاته بعقود، لأنها كانت مدرسة شديدة الخصوصية والتفرد.

بقى أن أتوقف أمام نقطتين في هذا المقال الموجز عن هيكل:

الأولى عن السر في عدم إقامة احتفالية ثقافية وصحفية عالمية في ذكرى رحيل هيكل أو مولده؟!

لماذا تمر ذكرى وفاة الاستاذ بكل هذه الصمت، وكان له ولا يزال تلاميذ ودروايش وعشاق في ظلال مدرسته.

أما الثانية، فهى سؤال لأولاده، عن مذكرات محمد حسنين هيكل، ولماذا لم تصدر حتى اليوم؟ والجميع في الدنيا كلها، يعلمون أن مذكرات هيكل وأوراقه كانت تكتب يوما بيوم، وقد تحدث عنها كثيرا ولعل أشهرها في مقال له بعنوان" خواطر مسافر" في مجلة الكتب وجهات نظر.

هيكل ليس ملكا لأسرته مع كل الاحترام والاعتزاز، ولكن ملكا للمصريين جميعا، وتجربته ومذكراته يجب أن تظهر وأن يزاح عنها الستار، وفق الخطة التي وضعها هو لنشرها منذ بدء كتابته لها في الأربعينات من القرن الماضي..

رحم الله محمد حسنين هيكل.. جراء ما قدمه من إسهام بارز في بلاط صاحبة الجلالة وعاشت مدرسته.


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط