سقطت الثورة.. وعاد "النظام"

ينتظر الحالمون تغيير وزارة الداخلية لسياستها ومنهجها وعقيدتها الأمنية، في ظل الجيل الحالي من منسوبيها، والنظام الحالي في الحكم الذي فشل في تكوين رؤية جديدة، فقرر تجديد الفشل القديم، ثم الدعاء بأن يهبهم الشيطان نتيجة أخرى غير الثورة، لأن الله لا يكافئ الأغبياء.
فتلك الوزارة التي تبتزّ السلطة والشعب في مصر منذ قيام الثورة وحتى الآن بالأمن الداخلي وما تقتنيه من سلاح، وتساومهما إما أن يحمي النظام عملها خارج القانون كما كانت، وإما الفوضى وانتشار العنف والإجرام والسلب والنهب.
فأولئك الحالمون بالتغيير يتناسون أن عمل الشرطة في ظل القانون، واحترامها للمواطن وحقوق الإنسان، يخلُّ –أساسا- بأغراض التحاق أفرادها بذلك الجهاز، فمنهم من دفع عشرات الآلاف من الجنيهات ليصبح ضابطا أو حتى فردا في الشرطة، والباقون فازوا بوظيفتهم لأنهم أبناء قضاة أو لواءات أو كبار مسؤولين، وقد سعوا جميعا لتلك الوظيفة في ظل النظام الساقط ليكونوا مثل سابقيهم في نفس العمل؛ مجرد مراكز قوى مطلقة اليدين في المجتمع، وأفراد تعمل بلا قانون أو مساءلة. فكيف يقبل هؤلاء فاجأة أن يخضعوا للقانون والمساءلة، وأن تحكمهم حسن المعاملة والاحترام في علاقتهم بالشعب؟! وهم من اعتادوا أن يطلقوا على أنفسهم لقب "باشوات"، ويفرضوا اللقب على الشعب بالقوة، ويمارسوا ضده كافة السلوكيات الفوقية والاستعلائية والعدوانية المريضة.
مر عامان على اندلاع الغضب الشعبي، الذي وُجّه للشرطة بالأساس، ليس باعتبارها خط الدفاع الأول عن المجتمع والقانون كما هي في كل دول العالم المحترمة، ولكن بوصفها عَصاة الحاكم وأداة قمعه وحراسته، والتي إنْ كُسرت انكسر الحُكم وأُهدرت هيبته، حيث الحكم في بلادنا نوع من السطو المسلح على الدولة والشعب، وليس ممثلا لهما.
3
ويبدو أن صفة "عَصاة الحاكم"، والتي يطلقها الكثيرون تأدبا، حيث هناك صفات أخرى أكثر دقة ومهانة في آن معا، يمكن أن تنطبق على تلك المهنة التي لم تتخلص منها العقلية الشرطية في مصر، والتي اختارت لنفسها منذ البداية هذا المجال لتقوم بهذا العمل تحديدا، حيث ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا كذلك، مقابل أن يغسلوا هذا العار أمام ضمائرهم بدماء المصريين وكرامتهم.
تمنى المصريون والثوار والعديد من القوى الوطنية والسياسية والثورية، أن تتطهر الشرطة في مصر من عملها الأول كـ"أدوات حراسة" للنظام الحاكم، وتتحول إلى "حُماة للشعب والمجتمع"، بما يحمله هذا العمل من قيمة وطنية سامية ومبعث للفخر، إلا أن ذلك التمني لا يمكن أن يُكتب له النجاح في ظل هذا الجيل الموجود بالكامل، لأنه كما أشرنا يُخل بأهدافهم التي التحقوا بالشرطة من أجلها، وكذلك لأن النظام الحالي خطط منذ البداية ليحل محل النظام الساقط، بنفس منهجه وفكره وآلياته وطموحه، وبالتالي فقد التقى الهدفان، وتلاقت الإرادتان، وظنّا –إثمًا- أنهما سيحققان نتيجة مختلفة، وهو ما تنفيه كافة تجارب البشر ونواميس الله في الكون.
لا أمل إذًا في ضبط عمل الشرطة أو تغيير منهجها وعقيدتها الأمنية من أدوات حراسة للنظام الحاكم، إلى حماة للشعب والمجتمع، في ظل نفس الجيل من أبناء الجهاز، وفي ظل هذا النظام الذي لا يمتلك رؤية إصلاح، وإنما رؤية سطو وسطوة، دون تجديد أو تغيير أو تطوير في أدواته، غير استخدام الشرطة نفسها لتقوم بالعمل نفسه، ضد نفس الشباب والقوى التي ثارت عليه منذ عامين، حيث جدد النظام نفسه –أو ظن ذلك- بعد أن استبدل وجها بوجه.
أُعيد نفس النظام -إذًا- وسقطت الثورة، وبدأ السعي لاستعادة كل الآليات القديمة؛ من القمع، وتشويه الثوار، وعودة رجال الأعمال، وتجاهل مطالب المواطنين، والعصف بالخصوم.. بل من المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا بمزيد من البطش والتضييق على الحريات، زد على ذلك تدخل الكهنة الجدد عبر "حوانيت الدين" التي انتشرت هنا وهناك، في تكفير الخصوم وتحريم الحريات، وتحليل قتل المعارضين وسحلهم واعتقالهم والتنكيل بهم، ونزع ورقة التوت الأخيرة، والتي تجردوا من أكثرها، عبر إحياء صيحة تحريم الخروج على الحاكم.
مستقبل أسود مما مضى ينتظر مصر المحروسة وشعبها إذا أغمض عينيه يوما عن ثورته. مستقبل يتمترس فيه محترفو "الفشل المستكبِر" داخل حوانيت الدين، يبيعون فيه الفقر والشعارات في سلة واحدة، ويمكنون لأنفسهم وعشيرتهم من مفاصل الوطن، من أجل ابتلاعه لصالح مشروعهم الطائفي وتنظيمهم الدولي، والذي يسعى إلى هدم القانون لفرض قانونهم، وإلى محق الهوية ليشيعوا فكرهم الباطني، وإلى سحق الوطنية واستبدالها بهويتهم الطائفية.
مستقبل شائه ينتظر هذا الوطن إذا نامت نواطير الثورة عن أولئك الثعالب.. فلا سبيل لاسترداد الوطن إلا بالمقاومة المستميتة، ولا أظنها بعيدة عن جينات هذا الشعب الذي ورثها عبر أجيال وقرون، قاوم فيها كل صنوف السطو على هويته ومقدراته، والتي جاء بها أعداؤه من الداخل والخارج عبر عصور التاريخ.
موجة ثانية من الثورة تدور رحاها الآن في مصر، ويحاول الكثيرون تخويف المصريين منها، وتهديدهم بإعادة الفوضى، وحرق البلاد، والحرب الأهلية، بل وما أسموه بـ"الثورة الإسلامية"، ولا أدري أي "إسلامية" التي يريدون إرهاب الناس وتخويفهم بها؟! وقد عرف الناس الإسلام دين رحمة وبِرٍّ وأخلاق، إلا إذا كانوا يقصدون بهذا المصطلح الذي ابتكروه تذكير الناس بنشاطهم القديم الذي مارسوه منذ أواخر السبعينات من إرهاب واغتيال وقتل واستحلال الأموال والحرمات، ورغم هذا التخويف فإن فطنة البسطاء في هذا الشعب تدرك أن أهل مصر لا يتقاتلون، لأنهم –ببساطة- لم يفعلوها عبر تاريخهم الطويل، مهما نثر فيهم هؤلاء بذور الكراهية وسموم الفتنة، وإنما يدركون جيدا كيف يقاتلون الدخلاء ولو تشبهوا بهم، وحدثوهم بلسانهم، ومهما اختبأوا خلف شعارات دينية يتربحون من ورائها، حيث يؤمن البسطاء أن دينهم الحنيف لا يدعو للكراهية والفرقة والبغضاء، ولا يشيع الضغائن والفتن بين الناس، كالتي يدعو إليها هؤلاء.
فتجار الدين لن يقبضوا في مصر إلا الريح، هكذا علمنا التاريخ.. أما إذا فشلت تلك الموجة من الثورة، فالموجة الثالثة لن تفشل، لأنها ستكون ثورة البسطاء والفقراء ومِلْح الأرض التي لا تفشل، وهي الثورة الحقيقية للشعوب الحية، التي يروون فيها حقولهم بدمائهم، ويسمّدونها أيضا برماد أعدائهم، ليزهر فيها القطن، وينمو القمح، وتتفتح في الحدائق أزهار البرتقال.