الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

فهمتوا ..إيه تاني؟


أيسرُ الطرق لتقييم من يبدو حديثهم وسُلوكهم وتفكيرهم خارجًا عن المألوف، هو أن ننعتهم بـ "الجنون"، فهي التهمة المُعلبة والجاهزة لوصم كل من لا يشبهنا، أو يتصرف كما نتصرف، لكن الأصعب، أن نُحاول الإبحار داخل نفوسهم وعقولهم، لفهم السر، والإجابة عن تساؤل: لماذا يتصرفُ هؤلاء على هذا النحو؟



لقاءٌ صحفيٌ مع الفنان محيي إسماعيل خلال مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي في أكتوبر الماضي، كان كفيلًا بإعادته إلى دائرة الضوء، بصورة ربما أدهشته هو الآخر، فالرجل تصرف على سجيته وكما اعتاد دومًا، بقدرٍ كبيرٍ من الاعتزاز بالنفس يصلُ حد الغرور، ودفعت تصريحاته الأخيرة البعض لإعادة نشر لقاءات شخصية له، يعود بعضها إلى مرحلة بدء سُطوع نجمه مطلع سبعينيات القرن الماضي، وكان لهذه اللقاءات القديمة أثرٌ بالغ لدي، فقد كنت كأنني أرى نفسي الآن، وأخذتُ أبحث عن محيي إسماعيل الذي يسكنني.



حديث النجم مُحيي إسماعيل مع بدء نشاطه السينمائي، يشي بطاقة كبيرة تكمنُ في داخله، وأفكارُ غير تقليدية يختزنها عقله، وشخوصُ مُتباينة تسكنه، واندفاعٌ جامحُ يُحركه، وطموحٌ دائم ليقتنص الفرصة التي يرى أنه يستحقها، حيثُ ثابر على تطوير أدواته وأداء الأدوار المُسندة إليه بإتقان، إلا أن طموحه كان يواجه بيئة الواقع السينمائي حينها، والذي كان يصرُ على أن ينحصر "إسماعيل" في قالب سينمائي مُحدد، الأمر الذي كان يرفضه النجمُ الصاعد حينها، ويتمردُ عليه، ولا يقبلُ الانصياع له، ليتحول الاندفاع في داخله إلى ثورةٍ دائمةٍ، والطاقة إلى غضب وكلماتٍ تُعبر عن إحساسه الدائم بقيمة ما يقوم به بصرف النظر عن آراء الآخرين.



يرى محيي إسماعيل أنه نتاجُ واقعٍ سينمائي غير عادل، فرغم إمكانياته وقدراته التمثيلية التي يؤمن بها ولا ينكرها أحد من أهل هذه الصناعة، إلا أنها لم تكن شفيعًا له، حيثُ ظل محصورًا في القالب الفني المرسوم له، والذي ظل يُطارده، مُقصى عن أدوار البُطولة المُطلقة التي طالما حلم بها، أو دور الفتى الأول الذي طالما راوده، ولم يواجه محيي هذا الواقع أو يحاول مُجاراته والاستسلام لمُفرداته، بل قرر التمرد عليه، والعمل وفق فلسفته الخاصة، يقبل أدوار ويرفض أخرى، حتى وإن كان ذلك على حساب تواجده فنيًا، كما آثر الإنعزال عن الجانب الآخر من الحياة الفنية، فلم يكن يظهر في سهرات الفنانين وجلساتهم الخاصة، رغم كونها تتيحُ فرصًا للتعارف واقتناص الأدوار، وفضل أن ينزوي، كي يبحث عنه من يجد أن لديه دورًا يناسبه.



قد تتفقُ مع النجم مُحيي إسماعيل وقد تختلف، وربما تراه مُصيبًا أو مخطئًا، ولكنه سيظلُ علامة فارقة في السينما المصرية ومكانته لن يُنازعه فيها أحد، ويبقى الجانبُ الشخصي في حياة ذلك الرجل مثيرًا للجدل، وهو في نهاية الأمر يخصه هو، ولكن لاريب أنه يستحقُ أن تُرفع له القبعة، فقد حافظ على اعتزازه في زمنٍ باتت فيه "عزة النفس" عُملة نادرة، وآثار أن يُعاني العيش في الظلام بعد الأضواء، ولم يسعى مثلَ العديد من الفنانين ـ تحت تأثير الظروف الاقتصادية ـ لقبول أدوارٍ تُقلل من حجم ما قدموه مُسبقًا في مسيرتهم الفنية.



مُحيي إسماعيل الذي يسكنني، يسكن الكثيرون غيري، فليس وحده يؤمن بأن لديه طاقة عظيمة في داخله لإحداث تأثيرٍ إيجابي في المجال الذي يحترفه، وليس وحده من يضعُ نصب عينيه هدفًا يسعى نحوه بكل إيمانٍ واندفاعٍ ورغبة، كما أنه ليس وحده من صادف في طريقه العقبات، ولكن "إسماعيل" لم يدرك أن ليس كل العقبات يمكنُ تحطيمها، وليس كل القناعات يمكن تغييرها، ففي الكثير من الأحيان يكون الحل أن تتخذ مسارًا آخر، إذا لم ترد أن تظل العقباتُ طوقًا يُقيدُ طموحك، تستلم لها ثم تكتفي بأن تُمضي حياتك وأن تلعنها.



وبأية حال، القرارُ لم يكن بيد محيي إسماعيل، فهناك نفوسٌ من نار، خلقها الله كذلك، لا تكفُ عن التمرد، ولا تنطفئ في داخلها نارُ الثورة، ولا يتوقفُ عن الاندفاع حتى وإن كان في ذلك ما يؤذيه ويضرُ به، وإنما يُحاول تغيير الواقع، والحفر بأظافره في العقبات التي تعترض طريقه، حتى يُدركُ مع مرور العمر أنه قد أفنى حياته بلا طائل، وأن تأثيره في تلك العقبات لم يعدو الحفر فيها لبضعِ سنتمترات لا تكفي لتجاوزها، ولكن القرار مازال في أيدينا أنا وأنت، وأمامنا الخيار، إما أن نكُونَ أكثر مُرونةَ وذكاءً في مُواجهة العقبات التي تعترضُ طريقنا، أو يُمضي كل مننا حياته ليكتشف بعد مرور العمر أنه غدا مُحيى إسماعيل جديد، فهمتوا؟ إيه تاني؟

ـــــــــ


المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط