الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

في استراحة يونس.. المجد للقصة القصيرة


مع انتشار عناوين وأغلفة الروايات التى تدفعها إلينا ماكينات الطباعة، يظل هناك من لا يزالون لديهم الشجاعة والقدرة على التصدى لهذا التسونامي الروائي، صدقنى لم أعد أهتم بالروايات كثيرا بعد أن صار التسجيل المباشر للأحداث المحيطة بأى شخص هو الذي نقرأه على صفحات التجارب الروائية، بعدما صارت الرواية هي موضة العصر وآية الدهر.

لكن الرواية ظلمت فنون الكتابة الأخرى، فأزاح بها جمهور عريض من القراء دواوين الشعر وعناوين القصص القصيرة من على أرفف المكتبات، حتى كاد الناشرون لا يهتمون بأي عنوان غير الرواية.

راودتني هذه الأفكار بعد ختام القصة العشرين في مجموعة الأديب الصحفي بالأهرام الدكتور محمد يونس والصادرة مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب بعنوان "استراحة مؤقتة"  فالكاتب اختار أن يصدر مجموعة قصص قصيرة على منوال أخلص فيه لفن القصة القصيرة الحقيقي والتى قد يخلط البعض بينها وبين المجموعة القصصية، ففن القصة القصيرة، له مميزاته عن الفن القصصى العام، فالمجموعة القصصية تتناول قصصها مواقف يكتبها المؤلف بطريقة يغلب عليها السرد الروائي فتصبح عاكسة ما ذهب يوسف إدريس في عبارته عن الرواية "قصة قصيرة طالت بعض الشيء" وإن لم تخرج عن مقصده لتصبح "رواية طويلة قصرت بعض الشيء" لكن يونس تحدى هذا وذاك وخرج من أسر القاعدة الإدريسية ليكتب قصصا قصيرة بأسلوب "يتحرر" فيه من السرد الطويل الممل أحيانا للقصة الطويلة أو الرواية القصيرة.

هل يسمح لي السادة النقاد - مع إصراري على أننى لست منهم ولا أريد أن أعود لهذا التأكيد- بأن أقول إن القصة القصيرة المكتوبة بلغة شاعرية وعبارات قصيرة متدفقة على هذا المنوال هي مقياس حقيقي للإبداع.

الرواية يمكن أن تأخذك في أحداثها، فكرتها، ثرثرتها، حكائيتها، إلى متاهات قد تمتعك بقراءتها، لكنها تظل مفتوحة لكل من استطاع الكتابة في "زمن الرواية".

هل أنه حانق على الرواية والروائيين؟!
نعم فهذه المجموعة أعادتنى بعد طوي آخر صفحاتها الـ"74" لهذه الحقيقة وهي أن كثيرا من أصحاب الأقلام الروائية ثرثارون -أي والله- فخلال قراءتي لقصص "استراحة مؤقتة" في جلستين أو ثلاث، وجدتنى أعود إلى زمن إبداع المزج بين الكلمة والفكرة والحدث، فأيقنت أننى أمام كاتب يجاذب الشعر وهو يقرر كتابة قصص قصيرة تبدو أحيانا بعناوين وافتتاحات قصائد، كما استطاع بكل جراءة أن يتخلص من رغبة الثرثرة الملحة التى تلازم الكتابة عموما والرواية خصوصا.

أعجبنى ابن الصعيد الجوانى أنه يقدم مجموعة في كتاب حجمه لا يروق للكثيرين من الناشرين والقراء ولم يعبأ بـ"كعب الكتاب" أن يكون عريضا فوق المائة صفحة، فتوقف بعد القصة العشرين وما كان أيسر من أن يكملها فوق المائة بكثير لكنه آثر الصدق مع قصصه.

وربما كان يقصد نفسه كمؤلف حقيقي وليس كبطل قصة خيالية عندما قرر في مفتتح قصته السابعة "أضغاث أحلام" أن يختار ملاك الكتابة هاربا من شيطان الشعر، لكن أظن أنه استطاع أن يصلح بين الملاك والشيطان على سن قلمه الذي يتمرد عليه أحيانا ويؤنبه لأنه يهدر يومه بلا فائدة كما في قصة "أفول يوم".

لكن كون القصة القصيرة مختصرة لا يعنى إنها ومضة كما يحلو للبعض وصفها مع الأقصوصة.. لا.. فالقصة القصيرة تبدو كبذرة الفاكهة، تحمل إمكان خلق قادم لو زرعته في نفسك لأورق وأثمر وأينع.

يأخذنا لأعماق الجنوب الذي اختار منه اسم المجموعة "استراحة مؤقتة" والتى فاجأني شخصيا بذكرى رائعة رأيتها عيانا في طريق قناطر نجع حمادي، حيث قرر رجل عظيم اسمه "عبد العزيز" من قرية "بخانس" التابعة لمركز أبو تشت أن يبنى على طول الطريق مابين مركزي أبوتشت –موطن المؤلف ونجح حمادي - موطني- ولمسافة تزيد عن عشرة كيلومترات، دواوين من الطين بيديه ويضع بجوارها مزاير للشرب تحت الأشجار الوارفة، ليلوذ بها المسافرون طوال الطريق فيتكئون عليها لالتقاط الأنفاس هربا من صهد شمس الصعيد الجوانى وكم سعدت لذكر هذا الرجل المجهول الذى قام بعمل بسيط ولكنه عظيم، ولعل السفر يعنى الكثير للمؤلف الذي بدأ به أولى قصصه في رحلته متنقلا بين استراحاته المؤقتة القصيرة في محطات الحياة.
المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط