الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

إبراهيم عطيان يكتب: مثلث برمودا.. الجزء العشرون

صدى البلد

توقيت الهجوم الإرهابي على الكمين في الساعات الأولى من يوم العيد أفسد على المصريين فرحتهم، وطالبوا الدولة بتوقيع أقصى العقوبة على من ثبت تورطهم في عمليات إرهابية.

وتبنى هذه المطالب عدد كبير من النشطاء والشخصيات البارزة، كان على رأسهم كالعادة الدكتور سعيد بدران الذي كان أول من نعى شهداء والوطن أثناء ظهوره على شاشة التلفاز في ضيافة برنامج حواري على أحد المحطات، وأعلن تضامنه الكامل وتأيده للأصوات التي تنادي بسرعة تنفيذ عقوبة الإعدام فيمن صدرت بحقهم أحكام قضائيه باتة في مثل هذه القضايا.

تلك هي المرة الأولى التي نرى فيها الدكتور سعيد منفعلًا وهو ينادي بالقصاص قائلًا: احنا منتظرين إيه تاني يحصل أكتر من كده عشان ننفذ أحكام الإعدام؟!.

اللي بتعمله الدولة دا اسمه تباطؤ واستهتار...
وشبابنا هو اللي بيدفع تمنه..
وقبل أن ينته الدكتور من حديثه وضع مقدم البرنامج يده على أذنه ثم قال:
اسمحلي يا دكتور أقاطع حضرتك؛ لأن معانا على التليفون سيادة اللواء جلال عبدالعزيز...
مساء الخير يا سيادة اللواء...
اللواء جلال : مساء الخير يا افندم...
مساء الخير يا دكتور سعيد..
المذيع: اتفضل يا سيادة اللواء...
يا ترى عند حضرتك تعقيب على كلام الدكتور سعيد؟
ولا في حاجة جديدة حضرتك تحب تقولها المشاهدين دلوقتي على الهوا؟..
اللواء: في الحقيقة مفيش جديد ولا في حاجة ممكن أضيفها؛ لأن أي حاجة ممكن تهم الناس احنا قولناها من بدري...
وبالتحديد في نفس اليوم بعد الهجوم مباشرة...
ومفيش حاجة مخفية عن الناس..
وأظن الدكتور سعيد يعرف كده كويس..
لكن في الحقيقة أنا عملت المداخلة بس عشان الدكتور والناس كلها تعرف ان الإعدام أو غيره شأن خاص بالقضاء... هو بس اللي يقدر يقول كلمته... 
إنما بأه دورنا كوزارة أو حكومة مش أكتر من التنفيذ ... 
وأعتقد الدكتور عارف كده كويس جدًا...
وعارف كمان إن حكم الإعدام الصادر بحق سيد عبدالعاطي هيتنفذ بعد أجازة العيد ...
يعني هجوم الدكتور سعيد على الجهات التنفيذية أعتقد مش في محله... 
ولا الكلام اللي بيقوله ده هيكون في مصلحة حد لأنه في الحقيقة اتهام خطير للدولة...
وأعتقد كمان إن الدولة لو عملت غير كده، هيكون الدكتور سعيد أول واحد يتهم الدولة بالتدخل في أحكام القضاء!...
وده طبعًا من حقه... 
واحنا عارفين قد إيه الدكتور بيحب البلد...
لكن من الأفضل إننا نقف كلنا جنب بلدنا في وقت زي ده.... وأظن حضرتك شايف كده برضو يا دكتور...
قال بدران وهو يبدي عجبه ودهشته مما يسمع: 
يا سيادة اللواء أنا بصراحة مستغرب من كلامك !...
حضرتك أكتر واحد عارف اني محسوب على النظام من وجهة نظر شريحة كبيرة من المجتمع... 
وبصراحة كده الناس دي معاهم حق يقولوا أكتر من كده؛ عشان دفاعي المستمر عن البلد وحكومتها...
لكن أعتقد إنه مينفعش تبقى الناس كلها شيفاني بالشكل ده، وحضرتك تيجي تقول ان كلامي مش في مصلحة البلد!...
يا سيادة اللواء أنا لو كنت وزير ولا مسؤل في الحكومة اللي سيادتك شايف إني بهاجمها دي، مكنتش هعمل أكتر من اللي بعمله دلوقتي... 
ولا كنت هدافع عنها أكتر من كده!..  
المذيع: حضرتك شرفتنا يا سيادة اللواء... 
والدكتور سعيد كمان شرفنا النهارده واستمتعنا بحديثه... 
لكن في الحقيقة لازم أختم مع حضراتكم؛ لأن وقتنا انتهى...

وفي صباح يوم الخميس كان اللقاء الأخير لسيد عبدالعاطي طلبه بوالديه قبل تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه.
وكانت الكلمات الأخيرة لسيد أثناء لقائه بوالديه صادمة؛
حين قال مفتخرًا بما فعله:
أنا صحيح هتعدم بعد ساعات ونهايتي خلاص قربت...
بس أنا مش ندمان على كل اللي عملته؛ عشان كنت باخد حقي منهم، ولو جاتلي الفرصة مليون مرة هعمل نفس اللي عملته.
أيوه كنت هكمل واخد حقي وحقكم من كل ظابط شرطة،
ولاَّ انت نسيت يا با؟
نسيتي يا ما الضرب اللي نزل عليكي وانتي بتلحقي أبويا؟
نسيت يا با؟
حتى لو حاولت تنسى مش هتقدر؛ عشان العلامة اللي في وشك دي هتفكرك..
ولا مش هتبص في المرايا عشان تنسى؟
إذا كنت نسيت أنا مش ممكن أنسى جزمة الظابط المفتري وهي بتشق وشك، وشلال الدم بينزف على الأرض،
مهو الظلم يا با مش ممكن يتنسي ولا ممكن تمحيه السنين،  بالظبط زي الجرح اللي في وشك ده، صحيح هو خف وطاب، بس أثره لسه موجود على خدك وهيفضل معاك طول حياتك.
والد سيد: هما صحيح كانوا ظباط مفتريين وظلمة، بس خدوا جزاءهم، وبعدين هما الظباط مش بشر فيهم الصالح والطالح؟
ولا أنت فاكر الظابط المفتري الظالم بس، ومش فاكر إن في نفس الوقت جه ظابط محترم ومتربي قبض عليهم؟
وإذا كان الظابط المفتري ده هو واللي معاه ظلمة ومفتريين، فانت كمان يا سيد بقيت ظالم ومفتري، وعملت أكتر منهم لما أخدت حقك من ناس ملهاش أي ذنب، وعاملتهم بذنب ناس تانية وافتريت عليهم. على الأقل هما قتلوا واحد، إنما أنت قتلت كتير، ويتمت أطفال، وحرمت ناس من أعز وأغلى ما عندهم...
استغفر ربك يا سيد يا بني واطلب منه الرحمة والمغفرة، اللي انت عملته ده مش ممكن يكون عدل، لكن ربنا سبحانه وتعالى اسمه الرحمن الرحيم...
استغفر ربنا يا بني..
توب لربك يا سيد قبل متقابله، وادعي ان جزاءك في الدنيا يكون كفارة لذنوبك اللي عملتها..
ربك اسمه التواب بيقبل التوبة..

أجهش سيد بالبكاء وراح يضرب بكفيه على حائط الغرفة، وانفجر ما كان يخفيه بداخله من يأس وحسرة وهو يقول:
أنا صحيح غلطت لما أخدت ناس تانية بذنب ظابط مفتري...
بس هو السبب...
هو اللي عمل مني مجرم لما ظلمني..
يا با أنا إنسان من لحم ودم، وعارف إن نهايتي تخوف أي واحد رايح يقابل ربنا
أنت فاكرني ايه يا با؟
انهمرت دموع الأم بغزارة بينما احتضن الأب ابنه، وظل يحاول تطهيره من الآثام قبل لقاء ربه، ويذكره برحمته فيقول:
أنت يا بني إنسان زي كل الناس بتحس وبتخاف ربنا.
لكن سيد رفض محاولة أبيه ودفعه بقوة وكأنه يخشى أن تباغته لحظة الإنهيار فيسقط أمام شيطانه الذي صور له الزي العسكري بلباس الشياطين، ومن يرتدونه بالمردة المفسدين، وصاح بقوة وهو ينتفض، والعرق يسيل من جسده كحمم بركانية تعبر عما بداخله من لهيب وغليان لن يطفئه سوى التعلق بحبل المشنقة.
لا يا با مش صح...
أيوه أنا إنسان، بس مش زي كل الناس...
مش كل الناس شافت اللي شوفته وأنا طفل صغير ....
والشاب اللي مات على صدر أبوه قدام عيني عشان مفيش حد قدر يحميه من ظابط فاسد، وإهانتك أنت وأمي قدام عيني وأنا مش قادر أعمل حاجة عشان كنت طفل والناس خايفين عشان هو ظابط، ودمك اللي روى الأسفلت لما حاولت تساعد راجل مظلوم وتاخد بيده...
وفي الأخر بتقول أنت إنسان زي كل الناس!
هو في إنسان ممكن يتهان بالشكل ده يا با؟!

اكتفى الأب بالجلوس في الأرض، ووضع كفيه على رأسه والنظر تحت قدميه باكيًا يفكر فيما حدث في ذاك اليوم، وما تعرضوا له من قهر وإهانة على يد ضباط فاسدين، عندما كانوا في طريقهم لزيارة أبنته في بيت زوجها.
ذلك الرجل الريفي البسيط الذي لم يعرف طيلة رحلة عمره سوى البساطة والسلام، والكد والعرق وسط حقله بين المزارعين راح يفكر بعمق، ويعود بالذاكرة إلى مشهد هو الأكثر مأساوية في حياته.
في منتصف النهار ومع رفع آذان الظهر توقفت سيارة أجرة ميكروباص على جانب الطريق، ثم نزل رجل في العقد الرابع من عمره يرتدي ملابس ريفية، وما أن وطئت قدمه أرض الميدان في قاهرة المعز حتى وجد تجمعًا بالقرب منهم، فالتفت للخلف ليأخذ بيد زوجته وفتى لم يتعدى العاشرة من عمره، فقال الفتى الصغير في براءة: خناقة يا با...الناس بيتعاركوا...
قبض الرجل بقوة على معصم ابنه وضمه إلى جواره، ثم حلق بذراعه اليسرى على زوجته، وراح يهرول بهما بعيدًا عن التدافع والزحام في مسرح الحدث، بينما يلتفت الفتى الصغير برأسه للوراء؛ لمعاينة ما يحدث في الجوار، وقدماه تخطو للأمام وهو يقول: بيضربوا الراجل يابا...هتسيبهم يضربوه؟
تسارعت خطوات الرجل أكثر، ثم جذب فتاه بقوة وهو يقول:
واحنا مالنا يا سيد...
خليك في حالك يا بني وبص قدامك...
الفتى الصغير: طيب تعالى نقول للظابط اللي هناك.
نظر الرجل إلى زوجته ثم قال: سامعه الواد؟...
مش قولتلك بلاش ناخده معانا أحسن...
خلينا في حالنا يا سيد ..
امشي وانت ساكت...
وإذا بصوت يأتي من قلب التدافع جعل الفلاح البسيط يتسمر في موقعه ولم تصدر عنه حركة، وكأنما داست قدمه لغم أرضي.
جَمُدَ الرجل في مكانه برهة حتى أعادته للخلف استغاثة شاب عشريني بالناس: الحقونا يا ناس...
خليكم معانا يا خلق..
عاد الفلاح وهو يأمل في نجدة المستغيث، لكنه تراجع عندما وجد أن أحد طرفي الخلاف ضابط شرطة عابس الوجه يرتدي الزي العسكري، وبيمناه سلاح ناري، ويقبض بيسراه على شريط من الجلد المتين يطوق خَصْر الشاب العشريني المستغيث، والشاب يخاطبه بلهجة المتعجب:
انت عايز مننا ايه يا باشا؟....
سيبنا في حالنا الله يخليك...
عايزين نشوف أكل عيشنا..
وإذا برجل في سن الستين يأتي مهرولًا يشق صفوف الناس، يجد عناءً بالغًا في التقاط أنفاسه، والعرق يتصبب من وجهه،
ثم يتجه نحو الضابط العابس محاولًا استعطافه
" هو مصطفى ابني عمل ايه ياباشا فهمني؟..
لو كان غلط أنا هأدبه قدامك دلوقتي بس سيبه الله يسترك "
الضابط: وانت سايبه من غير أدب لحد دلوقتي ليه يا لطفي؟
ولا مينفعش معاكم غير ضرب الجذم يا شوية زباله.
أنت بتقول ايه يا بني؟!..عيب كده.
فضربه الضابط بقدمه فأسقطة على الأرض أمام الجميع دون رحمة ولا شفقة، ثم قام بصعق الشاب بصاعق كهربائى كان بحوزته، فسقط على الأرض بجوار والده، فغضب الجميع ورددوا: ليه يا باشا..ليه حرام عليك؟
وتوجه الفلاح مسرعًا نحو الرجل المسن ليساعده في الوقوف والتقاط أنفاسه، فانهال عليه بالضرب جنديان وضابط أسود البشرة، ممتلئ البطن، له جسم هرمي الشكل وشارب أسود من الطرفين، بينما صبغه دخان السجائر من المنتصف لونًا أصفرًا يميل إلى البني.

اندفعت أم سيد وولدها لنجدة زوجها، وإنقاذه من بين أيدي المعتدين، فنال كل منهما نصيبه من الركل بالأحذية والضرب بلا رحمة، وبعدها تعالت في المكان أصوات طلقات نارية، ثم صرخ الناس: مصطفى مات.. مصطفى مات
بينما الضابط يصيح وهو يرفع سلاحه للأعلى؛ لردع المحتجين عن مهاجمتهم: يلا بسرعة خلينا نمشي، وسيبوهم على الأرض.
لكن ذراعًا آخر قد امتد من بين الحضور مصوبًا سلاحه نحو مؤخرة رأس الضابط الفاسد صاحب الجسم الهرمي وهو يقول: نزل سلاحك يا حضرة الظابط واركب معايا دلوقتي أنت واللي معاك أحسن.
التفت الضابط نحوه وهو يحاول تبرير جرمه:
انت بتعمل إيه يا حضرة الظابط؟
أنت عايز تقبض علينا يا عبدالله باشا عشان شوية بلطجية ومجرمين ولا إيه؟
الضابط الأمين عبدالله: الكلام دا مفيش منه فايدة يا حضرة الظابط، بلاش نضيع وقت كتير يا حضرة الظابط...
سلم نفسك أحسن وتعالى معايا أنت والناس اللي معاك، وهناك هنعرف مين المجرمين والبلطجية...
يلا يا حضرة الظابط قبل الناس دي متعمل حاجة تندم عليها.
اندفع الحضور نحو القتلة للسيطرة عليهم واقتيادهم إلى سيارة الشرطة التي حضرت للتو بعد استدعاء الضابط عبدالله لها، وسط هتافٍ وتصفيق حار من الحاضرين لضابط أمين يؤدي واجبه وهم يرددون: بلدنا لسه بخير يا جدعان...
ربنا يباركلك يا عبدالله باشا...
بينما دموع الجميع لم تتوقف حزنًا على مصطفى ووالده الذي يفترش الأرض باكيًا وهو يحمل رأس ابنه على صدره مناجيًا ربه: 
حسبي الله ونعم الوكيل...
حسبي الله ونعم الوكيل...