الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

هل أردوغان غبي؟!


ذكر أحد المحللين الأتراك لإحدى القنوات العربية أن الخطوات "التوددية" من جانب تركيا لمصر، والتي خرجت مرارا على لسان مسؤولين مهمين في أعلى نظام السلطة في تركيا وتوج هذا التودد الرئيس التركي شخصيا رجب طيب أردوغان، يقول المحلل إن ذلك دليل قاطع على أن تركيا ليست دولة إخوانية!، نعم لقد قال هذا، وهو قول لعمري عجيب!، حيث إن المقدمة لا يمكن أن تؤدي فقط لهذه النتيجة، مستطردا أن تركيا دولة ناضجة، وأنها لا يمكن أن تبحث إلا عن مصالحها، هذا الذي يعني أن مصالحها مع مصر، مؤكدا أنه لا يمكن لعاقل ألا يدرك قيمة ومكانة مصر إقليميا، وخاصة في المنطقة العربية.


كان هذا مستهلا دالا لما نود تناوله هنا وهو: لماذا الآن؟ .. لماذا الآن، وليس قبلا، يخرج الرئيس التركي، بشخصه، وليس على لسان مسؤوليه، متغزلا في مصر، ومراهنا على علاقة الشعبين المصري والتركي التاريخية، وآملا في أن يتطور العمل الجاري في مجالات ثلاثة حددها وهي: العمل الاستخباراتي، والجانب الدبلوماسي، والمجال الاقتصادي، بين مصر وتركيا، ناشدا تطور تلك العلاقات لتنتقل من بعض مؤسسات الدولة ومناصبها العليا إلى ما هو أعلى من ذلك، هذا الذي يعني الوصول إلى المستوى الرفيع، حيث لا مستوى بعد الخارجية والاستخبارات والاقتصاد سوى ذلك المستوى الأعلى في نظم الحكم.


لماذا الآن؟ بالنسبة لما نراه، وأنا متابع دقيق لما يصدر عن أردوغان منذ تلك المسرحية الهزلية والمشهد التمثيلي الذي قام بأدائه بانسحابه في فبراير 2009 من مؤتمر دافوس احتجاجا على عدم منحه فرصة الرد على الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز، الذي كان يدافع عن عدوان إسرائيل على غزة، ويومها أقام المنتمون لتيار الإسلام السياسي الدنيا ولم يقعدوها لما قام به "خليفة المسلمين مستقبلا!".


أقول باعتباري مراقبا متفحصا لأردوغان، أزعم أنني أسبر أغواره، هذا الذي يمكن الاستشهاد عليه بمقالات وآراء لنا في سنوات عديدة سابقة، لم يخرج فيها "الفعل الأردوغاني" - إن جاز التعبير - عما توقعناه، ولعلنا من أوائل من كانوا قد أعلنوا أن أردوغان لن يحرك ساكنا في محاولة لخرق الخط الأحمر الذي كان قد حدده له الرئيس السيسي، في اللحظة التي كان الجميع يترقب حربا بين مصر وتركيا على الأراضي الليبية، هذا الرأي المنشور في سلسلة مقالاتنا هذه لصحيفة صدى البلد، والذي نقلته عنها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، والذي يمكن للقارئ الكريم أن يعود إليه.


لماذا الآن؟ نستطيع أن نؤكد، ونحن مطمئنو البال أن الآن هو النتيجة الحتمية لما سبق، وأنه ليس حدثا  أو فعلا أو قرارا يمكن أن يحدث أو يتخذ "الآن" بمعزل عما سبقه من أحداث وأفعال وقرارات، بل لكونه نتيجة حتمية لسلسلة من الأحداث والأفعال سبقته وتم اختبارها لتؤدي إلى هذه النتيجة التي تم التمهيد لها تمهيدا مناسبا، بحيث لا يخسر أردوغان ما تبقى له من رصيد عمل بكل قوة على ألا يخسره جميعه.


إننا نذهب إلى أن أردوغان كان يعلم منذ البدايات الأولى التي عقبت عزل مرسي أن المشروع الإخواني في المنطقة قد انتهى تماما، وأنه كما كانت مصر هي مكان مولد جماعة الإخوان كانت هي أيضا مكان قبرها الذي دفنها فيه الشعب المصري في الثلاثين من يونيو بقيادة الرئيس السيسي الذي أعلن أردوغان عدم اعترافه بشرعية حكمه، فهل كان في سريرته يؤمن، بشيء من هذا؟  كلا، ليس ذلك فحسب بل يؤمن أيضا بكون السيسي قائدا ورمزا للثورة التي وارت جماعة الإخوان الثرى، وأكثر من ذلك فإنه يعلم يقينا أن السيسي هو باني مصر المعاصرة وراسم خريطة المنطقة كلها، بعدما أفشل مشروع الأمريكان والإخوان وتركيا وإسرائيل والذي أطلق عليه "الشرق الأوسط الكبير".


إذا كان هذا ما نذهب إليه، إذًا كيف يمكن تفسير هذا الموقف المتعنت - عن قصد ووعي - من قبل أردوغان؟! والإجابة عندي بسيطة لدرجة ملفتة: فالرجل، كما أعرفه، برجماتي حتى النخاع، ولا يتورع مطلقا في إظهار غير ما يبطن، وربما يكون ذلك جائز سياسيا، وهو يعلم أن أنصاره لا يمكن أن تقبل إلا الخطاب الذي كان يصدره، مهاجما فيه حكم الرئيس السيسي، في نفس الوقت كان في حاجة إلى وقت لعملية تمهيدية، أشرنا لها في مقالات سابقة، لتأهيل هؤلاء الأنصار، الذين كان قد مسح أدمغتهم، لضرورة وأهمية التقارب مع مصر، ولديه في ذلك العديد من الأوراق التي يمكنه أن "يلعب" بها على الوتر الذي يشجي هؤلاء المنهزمين نفسيا من أنصاره، وتأتي مكانة مصر وقيمتها وعلاقة الشعبين المصري والتركي في مقدمة هذه الأوراق. وهو ما كان من تصدير أردوغان لمسؤولين مهمين في نظامه بالحديث للتمهيد لتلك اللحظة التي عمل على ألا تفقده من أنصاره إلا هؤلاء الذين يقيّمون الأحداث والقضايا بنتائجها، وهم قلة قليلة في الفريق المسلوب الإرادة والساعي للسيطرة، ليس على المنطقة فحسب بل على العالم كله، دونما أية مؤهلات أو قدرات تؤدي إلى نتائج ولو طفيفة، ملموسة على الأرض، فهو يخاطب أذهانا مفصولة عن واقع العالم، وعالم الواقع.


لست من هؤلاء الذين يذهبون إلى أن تصريحات الغزل الأردوغانية في القاهرة، والتي يجدر بها كل الغزل، هي نوع من المناورة السياسية، بل أؤمن إيمانا عميقا بأنها مغازلات يتمنى مرسلها أن تجد آذانا صاغية من القاهرة، ليتم العمل من خلالها على كسر العزلة المضروبة بإحكام شديد على تركيا. هذه العزلة التي كان وراءها تلك السياسة الهادئة العميقة التأثير التي انتهجها الرئيس عبد الفتاح السيسي في صبر وأناة، فحاصر تركيا في محيطها الأوروبي، وحرم تركيا من عمقها العربي، ليجد أردوغان نفسه وحيدا، هذا الذي بعث برسائل صارخة للداخل التركي الذي أيقن أن سياسة أردوغان الخرقاء تجاه مصر التي ردت عليها الأخيرة بقوة وحسم هي السبب الرئيس وراء ذلك، فخرجت الأصوات تصرخ على لسان المعارضة بضرورة تحسين العلاقة، بل بالأحرى تقديم فروض الولاء والطاعة لمصر السيسي.


لقد كان للدور الذي لعبته المعارضة، الذي لا أستبعد أن يكون مدفوعا من المخابرات التركية، أهمية بالغة لتأهيل الشعب التركي، وخاصة أنصار أردوغان فيه، إلى ضرورة التقارب مع مصر وفتح صفحة جديدة تتنفس من خلالها تركيا الصعداء، بعدما كادت أن تختنق نتيجة للحصار المصري لها هذا الحصار الذي ينسب كذلك للمحور العربي القوي والذي يتمثل في مصر وكل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة اللتين أصبحتا هما الأخريين في مرمى الغزل التركي.


لم أقتنع يوما بإيمان أردوغان بالإسلام ولا بتركيا، لا بالدين ولا بالوطن، بل أؤمن أنه استخدم أعظم شيئين في الوجود وأقدسهما لما يحقق له مآربه وأهدافه الشخصية، فاستخدم الدين وتاريخ الأمة التركية لإثارة الحمية والنعرة القومية فقط، ومخاطبة منهزمين نفسيا نتيجة لواقع وحال الأمتين الإسلامية والتركية، ليلتفوا حول حلم يداعب خيالات سقيمة في التفوق والتقدم بمجرد الالتفاف حول من يخدعهم باسم الدين والوطن. إن الشعوب والأمم المهزومة والمتخلفة يدغدغ مشاعرها مثل تلك الوعود الخيالية التي يطلقها أردوغان ومن هم على شاكلته، ولكن مع الوقت يدرك العقلاء من هذه الشعوب أنهم قد ساروا خلف سراب وأن تحقيق تلك الوعود على أرض الواقع في استحالته أبعد من القبض على العنقاء. 


هذا الذي يدركه أردوغان ولكنه بخبث شديد، لا يخلو من ذكاء سياسي وغباء حقيقي، يبث أملا كاذبا لأناس لا تأخذ بالأسباب في أية قضية من القضايا، ولكنها تعيش على ماضٍ صوره البعض عامدا على أنه يمكن أن يتم إنتاجه ثانية، في ظروف لا يمكن أن تسمح بذلك. فإنتاج حاضر يضاهي ما كان في الماضي يحتاج عقودا إن لم يكن قرونا من العمل والجد والاجتهاد، وليس مجرد شعارات لا تقدم ولا تؤخر.



المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط