الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

كيف كلّلت مصر تعاونها مع الصين ليصل إلى شراكة شاملة

لطالما كانت مصر تتبوَّأ مكانة عظيمة لدى الوضع العام للدبلوماسية الصينية، باعتبارها دولة محورية على طول الحزام والطريق، وما تؤديه من دور فعَّال في قارة إفريقيا والعالم العربي؛ بسبب موقعها الجغرافي المتميز، الأمر الذي وضع على عاتقها مسئولية أن تكون دولة كبيرة من دول صُنع القرار فى المنطقة. وعلى الجانب الآخر، جمهورية الصين الشعبية باشتراكيتها ذات الخصائص الصينية، ونسيجها المختلف عن سائر الدول، تلك القوة التي أبت أن تكون ساكنة أو خاضعة لعوامل تؤثر في قيام نهضتها فاتَّخذت من سياسة الإصلاح والانفتاح طريقًا لتنميتها ووصولها إلى القمة حتى أخذت البلدان كافة تعترف بأهمية وجودها في المجتمع الدولي والحوكمة العالمية.

وفي هذا العام تحتفل مصر والصين بالذكرى الـ 65 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وذلك في الوقت الذي تشهد العلاقات الثنائية بينهما عصرًا ذَهَبيًا في ضوء الصداقة المتميزة بين الرئيسين عبد الفتاح السيسي وشي جين بينغ. وشهدت العلاقات المصرية الصينية تطورًا ملموسًا على جميع الأصعدة   وفى كافة المجالات  خلال العقود الستة الماضية وأثبتت قدرتها على مواكبة التحولات الدولية والإقليمية والداخلية، وتجلّت مؤخرًا في الزيارات المتبادلة بين زعماء الدولتين ومسئوليهما، كما أن الزخم القوي للزيارات عالية المستوى بين الصين ومصر يعكس الآفاق الواسعة للعلاقات الصينية المصرية على مدار التاريخ.
وقد بدأت العلاقات الدبلوماسية بين مصر والصين فى 30 مايو عام 1956م، بعد أن التقى كلٌ من الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس مجلس الدولة الصيني دجو إن لاي في باندونغ في أثناء القمة الأفروآسياوية لبحث سبل التضامن والتعاون بينها في إبريل عام 1955م. ثم أصدرت الحكومتان المصرية والصينية بيانًا مشتركًا حول إقامة العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء بين البلدين، وهو ما مثّل انعطافًا مهمًا في خريطة العلاقات الدولية بالنظر إلى مكانة البلدين؛ حيث بدأ البلدان في دعم بعضهما البعض على حد سواء، و كانت مصر من أوائل الدول التي أيَّدت بحماس حقّ الصين في استعادة مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة وعبَّرت قيادة الثورة المصرية عن دهشتها لموقف الولايات المتحدة المُتجاهِل لجمهورية الصين الشعبية. وعقب قرار الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في 26 يوليو عام 1956م بتأميم شركة قناة السويس وجعلها شركة مساهمة مصرية، لاقى هذا القرار تأييدًا كبيرًا من الصين حكومة وشعبًا في 4 أغسطس عام 1956م؛حيث أوضح رئيس مجلس الدولة الصيني دجو إن لاي دعم الصين لهذا القرار الذي اتَّخذته الحكومة المصرية من أجل حماية سيادة الدولة واستقلالها.
وفي فترة السبعينيات بعد أن سحبت الصين سفراءها من المنطقة للمشاركة في الثورة الثقافية، آثرت أن تُبقي سفيرها لدى مصر تأكيدًا منها على مكانة مصر وعلى الدور الذي تؤديه في السياسة الخارجية الصينية. وقد تجسَّدت هذه المكانة المتميزة لمصر من خلال الموقف الصيني من حرب أكتوبر1973م، التي سارعت فيه بإعلان تأييدها التام للجهود المصرية لاستعادة أراضيها المحتلة. وفي النصف الثاني من السبعينيات شهدت مصر والصين إصلاحًا اقتصاديًا من شأنه أن يغيِّر من ملامح الدولة وتحوّلهما إلى قوتين صاعدتين؛ حيث كرَّست مصر جهودها لإعادة البناء والتعمير وتعزيز القدرات الاقتصادية، وذلك منذ انتهاجها سياسة الانفتاح الاقتصادي عام  1974م، ومن هنا بدأت مرحلة جديدة في تاريخ مصر. في الوقت الذي شهدت فيه الصين نقلة نوعية بتطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح، وهي السياسة التي انتهجتها لتنفيذ الاشتراكية ذات الخصائص الصينية، بما تضمنته من الإصلاح الداخلي والانفتاح على العالم الخارجي. وفيما بعد تأكدت رؤى الصين في أن سياسة الإصلاح والانفتاح هي السبيل للحاق بركب العصر بخطى كبيرة وثابتة من خلال دعم وتطوير الاشتراكية ذات الخصائص الصينية.
واتَّسمت فترة الثمانينيات والتسعينيات بأنها فترة بالغة الأهمية لما شهدته من تبادلات تكثّفت على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية، مع تزايد حركة السفر والسياحة بين البلدين، الذي زاد على إثر الزيارات المتبادلة للوفود رفيعة المستوى بين قادة الدولتين تأكيدًا على أهمية التعاون والتضامن. وعلى صعيد الحوار الحضاري بين البلدين والشعبين استضافت القاهرة في شهر أكتوبر 1993 ندوة الحوار العربي - الصيني التي نظمتها اللجنة المصرية للتضامن الأفروآسيوي. وفي إبريل 1994م قام الرئيس المصري بزيارة إلى الصين.
ومع بداية القرن الحادي والعشرين ودخول حقبة جديدة من تطور العلاقات المصرية الصينية، في يناير عام 2002، قام الرئيس المصري بزيارة أخرى إلى الصين، أعلن خلالها عن إنشاء مجلس الأعمال المصري - الصيني المشترك؛ حيث شهد عام 2002م والنصف الأول من عام 2003م عددًا من التطورات الإيجابية في مجال العلاقات المصرية الصينية، تُوِّجت في نهاية شهر يناير من عام 2014م بالزيارة الأولى التي يقوم بها الرئيس الصيني هو جين تاو إلى المنطقة؛ حيث كانت مصر على رأس هذه الجولة تقديرًا من الصين لأهمية مصر وبناءً على العلاقات الوثيقة التي تربط بين البلدين. وخلال زيارة الرئيس الصيني هو جين تاو، تم الاتفاق على تأسيس منتدى التعاون الصيني العربي، الذي واصل مسيرته في إقامة 6 دورات أدت كل منها دورًا إيجابيًا في تعزيز وتعميق التعاون والتبادلات بين الصين ومصر والعالم العربي كافة.
وقد شهدت الزيارة أيضًا مشاورات ناجحة ومهمة بين الرئيسين كما التقى خلالها الرئيس الصيني بعدد من القيادات المصرية، وتم التوقيع في أثنائها على أربع اتفاقيات للتعاون الثنائي بين البلدين في عدة مجالات مختلفة. هذا وقد أدت الزيارة دورًا مهمًا في تنشيط مشروع المنطقة الاقتصادية الخاصة بشمال غرب خليج السويس؛ حيث تم التوقيع خلالها على اتفاقية في هذا الشأن كما حاز هذا الموضوع على اهتمام واضح من قبل الرئيس الصيني؛ إذ عقد في أعقاب زيارته لمصر اجتماعًا ضمّ الجهات الصينية المعنية لحثِّها على ضرورة المضي قدمًا في تنفيذ في هذا الشروع، والذى يعد أساس العلاقات الاقتصادية بين البلدين،  وبناءً على هذا الاهتمام من جانب القيادتين الصينية والمصرية في متابعة تنفيذ هذا المشروع تم تبادل عدد من الزيارات المهمة بين الجانبين خلال الفترة في هذا الخصوص وهو ما يعكس رغبة مشتركة في المضي قدمًا بهذا المشروع المهم؛ تحقيقًا لمصالح الدولتين.
وتكلّلت زيارات الرئيس السيسي للصين بنجاح في تطوُّر العلاقات لتصل إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة انطلاقًا من الأهمية التي توليها قيادة الدولتين للعلاقات الثنائية في عام 2014م. وتجلَّى اهتمام القيادة السياسية في الدولتين بتطوير العلاقات الثنائية بوضوح خلال السنوات الماضية؛ حيث حرص الرئيس الصيني شي جين بينغ على دعوة الرئيس السيسي لحضور القمم الدولية التي تستضيفها بكين انطلاقًا من تقدير الصين للمكانة الإقليمية والدولية التي تحظى بها مصر، وكذلك الاهتمام المصري بالعلاقات مع بكين في ظل اتجاه مصر نحو تعزيز علاقاتها مع القوى المهمة في شرق آسيا لا سيما الصين. 
كانت أول قمة تجمع بين رئيسي الدولتين في عام 2014م، حينها رحَّب الرئيس السيسي بالمبادرة التي أطلقها الرئيس شي بإعادة إحياء طريق "الحرير البري والبحري"، أعقبتها زيارة في سبتمبر 2015 أثنى الرئيس الصيني خلالها على الخطوات العملية التي يتم اتخاذها على صعيد تعزيز التعاون الثنائي لا سيما فيما يتعلق بمشروعات الطاقة الإنتاجية فضلًا عن التنسيق الجاري بين البلدين في الشئون الدولية بما يعكس حرصهما على تعميق العلاقات الإستراتيجية وتعزيز بينهما. 
كما رحَّب الرئيس السيسي خلال اللقاء بالاستثمارات الصينية في مصر واستعرض عددًا من المشروعات التي يمكن أن يساهم فيها المستثمرون الصينيون، لاسيما في المنطقة الاقتصادية الخاصة لقناة السويس والتي تتيح مشروعات واعدة في مختلف المجالات أمام المستثمرين الصينيين للانطلاق نحو الأسواق المجاورة لمصر سواء في المنطقة العربية أو القارة الأفريقية. وعقدت القمة الثالثة التي جمعت بين الرئيسين السيسي وشي جين بينغ في الفترة من العشرين إلى الثاني والعشرين من يناير 2016م، وذلك خلال الزيارة التاريخية للرئيس الصيني شي جين بينج إلى مصر في أول زيارة لرئيس صيني إلى لقاهرة منذ 12 عامًا، استجابة لدعوة من الرئيس السيسي. وخلال الزيارة حضر الرئيسان الاحتفالات المشتركة بمناسبة الذكرى الـ 60 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وأعلنا تدشين "عام الثقافة الصينية" في مصر، و"عام الثقافة المصرية" في الصين. 
ثم عُقدت القمة الرابعة في هانغتشو بناءً على دعوة الرئيس الصيني للرئيس السيسي في أثناء مشاركته في قمة مجموعة العشرين في سبتمبر 2016م، ثمَّن خلالها الرئيس الصيني ما تشهده الشراكة الشاملة بين البلدين من تطور إيجابي على جميع الأصعدة؛ مشيرًا إلى تزايد التعاون في المجالات الاقتصادية والثقافية والأمنية؛ فضلًا عن تعزيز التواصل والتشاور بين الدولتين حول الموضوعات الإقليمية والدولية. وأعرب الرئيس السيسي عن تقديره لدعوة الرئيس الصيني لحضور قمة مجموعة العشرين وما تعكسه من عمق روابط الصداقة والشراكة القائمة بين البلدين، وعبر عن تطلُّعه إلى مواصلة تعزيز التعاون الثنائي مع الصين وتنميته على جميع الأصعدة، والاستفادة من التجربة الصينية الرائدة في عدد من المجالات. 
كانت الزيارة الخامسة في سبتمبر 2018م للمشاركة في قمة منتدى التعاون الصين - أفريقيا فوكاك. وشهدت الزيارة التوقيع على مشروعات مع شركات صينية باستثمارات بلغت نحو 18 مليار دولار فيما تعمل نحو 1500 شركة صينية في مصر في العديد من المجالات الاستثمارية المتنوعة، ومن أبرزها قطاعات الصناعة والاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات وتطوير المناطق الاقتصادية، والتمويل، والمقاولات. وتعد الصين شريكًا مهمًا في تأسيس مشاريع المقاولات في العاصمة الإدارية الجديدة. وختامًا جاءت الزيارة السادسة للرئيس السيسي إلى بكين في أبريل 2019م؛ حيث نظّمت الصين منتدى الحزام والطريق الثاني للتعاون الدولي في العاصمة بكين، وذلك بمشاركة 37 رئيس دولة وحكومة، يتقدمهم الرئيس عبد الفتاح السيسي. وكانت زيارة الرئيس السيسي إلى الصين هي السادسة منذ توليه منصب الرئاسة عام 2014م، وهو ما يؤكد أن العلاقات المصرية الصينية تتسم حاليًا بالتميز، خاصة وأنه تم رفعها في السنوات الأخيرة إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة انطلاقًا من الأهمية التي توليها قيادة الدولتين للعلاقات الثنائية. في الوقت نفسه الذي ترى الصين فيه مصر دولة ذات نفوذ وثقل كبير في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا. 
وفي ظل الوباء الذي اجتاح العالم لم تَكُفَّ مصر والصين عن أن تبيّن أهمية المكانة والدور الذى يؤديه كل منهما على الساحة الدولية والإقليمية، وعلى إثر العلاقات الوطيدة بين البلدين حكومة وشعبًا، سارعت مصر إلى إرسال المساعدات الطبية وعبّرت عن مساندة الصين ودعمها في مواجهة هذه الجائحة؛ حيث بعث الرئيس عبد الفتاح السيسي وزيرة الصحة على رأس وفد مُحمَّلة برسالة تضامن من الشعب المصري للشعب الصيني. ومن جانبه أشاد الرئيس السيسي بالنموذج الذي قدّمته الصين في كيفية التعامل مع هذه الأزمة. وتأكيدًا على أهمية الصين بالنسبة للعلاقات الدبلوماسية المصرية، كان لإضاءة قلعة صلاح الدين الأيوبي بالقاهرة ومُجمَّع معابد الكرنك بمحافظة الأقصر ومعبد فيلة بأسوان جنوبًا، بألوان علم الصين عظيم الأثر في الدعم المعنوي للشعب الصينى ومكافحته لهذا الوباء. 
وعلى إثر ذلك لم تنس الصين دعم مصر لها في بداية الجائحة، فسارعت بإرسال ثلاث شُحنات من المساعدات الطبية الوقائية لمكافحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، وذلك في إطار التعاون بين البلدين؛ حيث بلغ وزن الدفعتين الأولى والثانية أربعة أطنان من المستلزمات الطبية، أمّا الدفعة الثالثة فكانت تزن 30 طنًا من المستلزمات الطبية الوقائية، وتتضمن مليون كمامة طبية، و150 ألف كمامة "N95"، و 70 ألف مجموعة من الملابس الطبية الوقائية، و70 ألف فقاز طبي، بالإضافة إلى 70 ألف كاشف خاص بتحاليل فيروس كورونا المستجد، وألف جهاز قياس درجة حرارة. ومن منطلق إحساسنا  بالمسئولية وإيمانًا  بأهمية فكرة المجتمع المشترك للبشرية، سارعت مصر في مساندة الدول الأخرى في مواجهة الأزمة؛ حيث باتت طائرات القوات المسلحة المصرية المُحمَّلة بالمستلزمات الطبية تجوب أكثر الدول انتشارًا للوباء، بداية بالصين وأمريكا وإيطاليا والسودان ثم الكونغو وزامبيا لتلعب دورها في دعم الدول الواقعة على طول الحزام والطريق دعمًا معنويًا وعلميًّا. 
وهذا ماجعلنا  نرى التعاون الثنائي بين الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم  ومصر فى عصره  الذهبى الذى يخدم مصلحة الطرفين فى المقام الأول، ويسهم فى استقرار المنطقة ويعزز السلام والأمن الدولى.

___________________________
*رئيس جامعة عين شمس
أستاذ جراحة وزراعة الكبد
ورئيس وحدة زراعة الأعضاء 
 

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط