الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

القنديل والعلم

قادتني الصدفة إلى مشاهدة رائعة الروائي الكبير يحيى حقي «قنديل أم هاشم»، وصراع العلم والمعتقدات المتوراثة المتراكمة في الوعي الجمعي لشريحة كبيرة، باختلاف طبقاتها.

قنديل أم هاشم

جاءت النسخة السينمائية للطرح الإبداعي لـ«يحيى حقي»، مشرقة بأنوارها، ومجابهة بأفكارها لموروثات شعبية، ومؤصلة لفكرة الصراع بين العادات والموروءثات التي تقف على النقيض من التطور العلمي، وهي من الروايات الرمزية غير المباشرة، التي نُسجت في إطار درامي، بمعالجات دلالية، حول أشكالية التفاعل مع الثقافات الغربية، والموقف المذبذب منها.

فـ قنديل أم هاشم، كان صراعا بين المجتمع الأصولي، وبين الحداثة الوافدة؛ من خلال بطل الرواية «إسماعيل»، الذي ولد وعاش في حي السيدة زينب، بعاداته وتقاليده المتشبعة بنمطٍ من التدين الشعبي؛ لينتقل فجاة لدراسة الطب في أوروبا.

وتصطدم مكونات التسامي الإيماني الظاهري لديه، بحضارة الغرب المنفتح بكل منجزاته ومادياته، وتحدث الصدمة الحضارية، ويعود لوطنه أسيرًا لكل ما رآه من حريات وأفكار؛ فيقع بين مطرقة ما نشأ عليه، وسندان ما اطَّلع عليه من حداثة.

أُضيف إلى هذا الصراع، تحدٍّ آخر، تمثل في إصابة ابنة عمه «فاطمة» بضعف في الإبصار، يهددها بالعمى، في وسط اجتماعي يلجأ فيه بُسطائِهِ إلى العلاج ببركة الصالحين، والرمز هنا، هو: «قطرات من زيت القنديل المبارك»؛ وهو الأمر الذي يرفضه العلم، وجسدته المعالجة الدرامية، بتحطيم الدكتور إسماعيل لـ قنديل المسجد.

لكنه هو الآخر يفشل في علاجها بالعلم، وينفض عنه مرضاه؛ بعد فشله الناتج عن تحديه لمعتقداتهم الدينية، ويصبح علمه مرفوضا من جميع من حوله.

وتنهار ثقة «إسماعيل» فيما تلقاه من علم، فلا الزيت ولا العلم قدما العلاج لـ «عين فاطمة»، وتزداد حالته سوءًا، ويصبح بلا عمل، وبعد صراع كبير، يقرر منهجًا جديًدا، مستخدما العلم والإيمان معًا.

ويبدأ مرحلة جديدة من علاج ابنة عمه، معترفا ببركة زيت القنديل في الشفاء، لكن مع الاستعانة بالأدوية، وبمرور الوقت؛ تعافت وأبصرت مرة أخرى، دون أن يعلم أحد، هل السبب في ذلك هو العلاج بالدواء؟ أم بالتسليم والرضوخ الروحاني للفكرة.

فعندما دخل بطل الرواية في دوامة الصراع الوجودي، عبر معاناة داخلية مظلمة؛ انتهت باكتشاف النور المتواجد في مكنونات النفس، والذى أدى التخلى الكامل عنه؛ لتحويل العلم المكتسب إلى طائر بجناحٍ واحد.

وجاء رحاب أم هاشم- بكل ما ترمز إليه من دلالات روحانية-؛ ليمد جسرًا يصل ما بين «ما وصل إليه العلم» وبين «حياة الناس وموروثاتهم الراسخة»، فالجانب الروحي الخلاَّق الذي يرمز إليه الحضور المضيئ للقنديل، ويمتد إلى الزيت، الذي يؤمن ببركاته من يقبلون عليه؛ يصل في نهايته إلى اليقين بحتمية اقتران العلم المادي بالروحانيات.

ومن أجل هذا، وصف «يحيى حقي»، القنديل، بأنه أَبَدِيّ، ويتعالى على كل الصراعات، فكل نور يبدأ باصطدام بين ظلام يجثم، وضوء يدفع، إلا هذا القنديل؛ فإنه يضيء بغير صراع.

وعلى كثرة نصوص الأدب العربي التي طرحت إشكاليات الصراع بين الأصالة والحداثة؛ تظل رواية قنديل أم هاشم، متفردة؛ بوصفها مرجعا أصيلا فَنَّد هذا الصراع على أرض الواقع.

ورغم تنوع أعمال يحيى حقي؛ ستظل رائعته «قنديل أم هاشم» هي الأشهر والأهم في أعماله التي تميزت بجمال الصياغة، وروعة الفكرة، والتراكيب اللغوية المتفردة في إيقاعاتها المتدفقة، والقدرة الفائقة على استخدام الإيحاء والتجسيد والتأثير.

المقالات المنشورة لا تعبر عن السياسة التحريرية للموقع وتحمل وتعبر عن رأي الكاتب فقط