الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
أحمــد صبـري

عبد السلام فاروق يكتب: في مدرسة الشهادة

عبد السلام فاروق
عبد السلام فاروق

قلما وجدت فى ربوع مصر قاطبة محافظة أو مدينة ليس على مدرسة منها أو مسجد اسم الشهيد الراحل القائد عبد المنعم رياض الذى استشهد عام 1969 أثناء حرب الاستنزاف فحزنت مصر لموته وخرجت تعزيه. بل إن العرب جميعهم حزنوا لموته وخلدوا ذكراه، وأطلق اسمه على شوارع ومدارس فى الأردن وسوريا والكويت وليبيا، وصار يوم استشهاده يوماً من أيام مصر التى تقام لها احتفاليات التأبين تخليداً لذكرى الفريق الراحل وذكرى كل شهيد ضحى بنفسه لتكون كلمة الله هى العليا..

قليلون يعرفونه

رغم أن اسمه صار علماً يعرفه المصريون جميعهم إلا أن قلة يعرفون من هو..
شاء المولى أن يصير عبد المنعم رياض رمزاً للفدائية والتضحية.. ولم يأت هذا من فراغ.. فهو، رحمه الله، كان أحد الأبطال الحقيقيين؛ شارك في الحرب العالمية الثانية ضد الألمان ، وشارك في حرب فلسطين ، والعدوان الثلاثي ، وحرب 1967 وحرب الاستنزاف،كما أشرف على الخطة المصرية لتدمير خط بارليف خلال فترة حرب الاستنزاف.. ثم جاء يوم استشهاده علامة على حرص القائد أن يتقدم صفوف القتال بشجاعة وإقدام..ففي صبيحة يوم 8 مارس قرر الفريق أن يتوجه بنفسه إلى الجبهة ليرى عن قرب نتائج المعركة وقرر أن يزور أكثر المواقع تقدماً ثم انهالت نيران العدو الإسرائيلي فجأة على المنطقة التي كان يقف فيها وسط جنوده وانفجرت إحدى قذائف المدفعية بالقرب من الحفرة وتوفي متأثرا بجراحه نتيجة للشظايا القاتلة يوم 9 مارس الذى صار يوماً للشهيد، بعد أن قام الرئيس عبد الناصر بتكريمه برفع رتبته ومنحه أرفع الأوسمة العسكرية.

لقد شغل الفريق أول عبد المنعم رياض منصب رئيس هيئة العمليات بالقوات المسلحة المصرية ، وصار رئيساً لأركان القيادة العربية الموحدة، ثم رئيساً لأركان حرب القوات المسلحة. وهو من مواليد الغربية، وقد نزحت أسرته من الفيوم وكان والده القائم مقام محمد رياض قائداً لبلوكات الطلبة بالكلية الحربية. وربما لا يعرف الكثيرين أن عبد المنعم رياض التحق بكلية الطب بناء على رغبة أسرته قبل أن يقرر تركها بعد عامين من الدراسة للالتحاق بالكلية الحربية التى أحبها. 

الغريب فى الأمر أن دراساته ونبوغه تعدى عدة مجالات عسكرية وغيرها..إذ أنه أتم دراسته كمعلم مدفعية مضادة للطائرات بإنجلترا، وأجاد عدة لغات كالألمانية والروسية بالإضافة للإنجليزية والفرنسية، ودرس الرياضيات البحتة وانتسب لكلية التجارة اعتقادا منه بصلة الاقتصاد بالتخطيط الاستراتيجي.

شارك الفريق أول عبد المنعم رياض فى تحقيق انتصارات عسكرية هائلة اشتهرت فى تاريخ البطولات العسكرية كمعركة رأس العش أواخر يونيو 1967. كما شارك فى تدمير المدمرة الإسرائيلية إيلات فى أكتوبر 1967 ، واستطاع كقائد للدفاع المضاد للطائرات من إسقاط عدة طائرات للعدو الإسرائيلي خلال عامى 1967 و1968 . وكان له دور مسبق فى تحقيق انتصارات أكتوبر 1973 حتى لو لم يشارك بتلك الحرب.
 

أبطال فى كل مكان

تبقى الشهادة أسمى درجات الفداء ، ويظل الوطن الحصن الذى تجتمع قلوبنا جميعًا دفاعًا عنه.. وشهداء مصر لا يعدون ولا يحصون عبر التاريخ ، فمنذ فجر التاريخ قدم أبناؤها أرواحهم فداء لها ودفاعا عنها ضد الهكسوس، ثم ضد الصليبيين، ثم ضد التتار والمغول، فهى دائما وأبدا مقبرة الغزاة ودرع حماية المنطقة بأكملها، وقدمت خيرة شبابها ورجالها إبان الحملة الفرنسية وطيلة فترة الاحتلال الإنجليزي من أجل طرد المستعمر، وكان المصريون فى مقدمة المدافعين عن فلسطين في حرب 48، وتجلت بطولة أبنائها أثناء العدوان الثلاثي الغادر على بورسعيد، وخلال حرب الاستنزاف التى أعقبت النكسة، وفى حرب أكتوبر المجيدة التي ثأرت فيها مصر لكرامتها محطمة أسطورة الجيش  الذي لا يهزم .
 القوات المسلحة المصرية ظلت حريصة على إحياء هذه الذكرى بكل الإجلال والإكبار والعرفان لهؤلاء الشهداء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. وكانوا أوفياء ليمين الولاء للوطن وافتدوه بأغلى ما يملكون مضحين بأرواحهم ودمائهم الذكية فداء للوطن وصونا لقدسية ترابه، تاركين وراءهم الزوجة المترملة والأم الثكلى والأب الحزين والأبناء والأخوة ، تزايد أعداد الشهداء لا يزيد زملاءهم إلا عزما وإصرارا على استكمال المسيرة حتى ينالوا الشهادة ويلحقوا بزملائهم.
تلك الفدائية والبطولة غرست فى شرايين أبناء النيل على اختلاف طوائفه.. وليس أدل على ذلك ممن فقدتهم مصر من شهداء الشرطة طيلة سنوات وعقود مضت، بل وشهداء كورونا ممن تصدوا بفدائية وفى الصفوف الأولى لكبح جماح الجائحة ، فمات عدد من الأطباء وطواقم التمريض على جبهة كفاح الوباء. ونعاهم الرئيس عبد الفتاح السيسي.

مغزى النصب التذكارب

آلاف استشهدوا ما بين النكسة والانتصار وحروب الاستنزاف.. بعضهم معروف وأكثرهم لم يعلم بهم أحد.. لذلك حرصت الدولة على إقامة رمزًا يمجد ذكرى شهدائهم ووفاءً لمن ضحوا بأرواحهم لنصرة أوطانهم؛ فأقامت مصر نصبًا تذكاريًا يليق بجلال الانتصار ويرسخ تقاليد القوات المسلحة فى الوفاء بشهدائها عبر العصور من واقع الحضارة المصرية الخالدة صُمم على شكل هرم خرسانى مفرغ على مساحة 10 آلاف متر مربع وبارتفاع 32 متر ويتكون من أربعة أضلاع لكل منها وجهان مسطحان بمساحة تصل إلى 325 متر مربع وتحتوى كل وجهة على 18 سطر من الكتابة البارزة سُجل عليها أسماء رمزية لشهداء مصر فى مختلف الحروب ليكون بديلًا للنصب التذكارى القديم بمنطقة مقابر الغفير، كما دُفنت رفاة لأحد الشهداء المجهولين داخل النصب ليصير رمزًا للجندى المجهول تبدأ عنده احتفالات مصر القومية.

ليس هذا النصب هو الوحيد، بل قد أقامت المناطق العسكرية نصبًا تذكاريًا للشهداء من أبناء المحافظات التى تدخل فى نطاق تلك المناطق حيث يقوم القادة والمحافظون بوضع أكاليل الزهور خلال الاحتفالات القومية والأعياد الوطنية المختلفة.. تلك جميعها صروح تعلو فوق الأرض لنتذكر نحن اليوم وكل يوم هؤلاء الذين توسدوا باطنها ليرسلوا للأحياء رسالة غير مكتوبة.

هؤلاء وأولئك ممن ضحوا بساعة من الدنيا من أجل خلود فى الآخرة يعلموننا دروسا لا تنتهى.. أن قلة من الناس يعملون من أجل كثيرين وراءهم، لا يهمهم إن عرفهم أحد أو جهلهم. هؤلاء باعوا أنفسهم طمعاً فى رضا المولى. هؤلاء باعوا القليل الفانى من أجل الكثير الباقى.. ذهبوا هم وبقيت مصر.