أحدثت حبريّة البابا فرنسيس، التي امتدت اثنتي عشرة سنة، تحولًا عميقًا داخل الكنيسة الكاثوليكية، إذ دعا الكاثوليك إلى مغادرة منطقة الراحة والانخراط في المجتمعات الأكثر فقرًا، وأطلق نقاشات حول قضايا كانت تُعدّ محرمة، مثل دور المرأة في الكنيسة، وفتح أبواب المصالحة مع الكاثوليك من مجتمع الميم، وسمح للمطلقين المتزوجين مجددًا بتناول القربان المقدس.
كما جذب الأنظار إلى نقده الصريح للظلم الاقتصادي ونداءاته المتكررة لحماية البيئة.
ورغم التقدير العالمي لنهجه، واجه البابا مقاومة عنيدة من مجموعات كاثوليكية محافظة، وإن كانت محدودة العدد، لكنها عالية الصوت.
كما اصطدم أحيانًا بلا مبالاة أو مقاومة خفية من أساقفة داخل البنية الهرمية للكنيسة.
واليوم، مع اقتراب اجتماع 133 كاردينالاً في المجمع المغلق لاختيار خليفة فرنسيس، تلوح في الأفق معضلة أساسية: هل سيستمرون في بناء الكنيسة على أسس الإصلاح التي أرساها فرنسيس، أم سيختارون التباطؤ وإعادة التوازن نحو منهج أكثر تحفظًا؟
وقد تحدثت شبكة CNN إلى عدد من الكرادلة ومصادر داخل الكنيسة، وأظهرت أحاديثهم أن بعضهم يميل إلى خيار أكثر أمانًا يركّز على "الوحدة"، فيما عبّر أحد الكرادلة المقرّبين من فرنسيس أن هذا الخيار قد يمثل "قبلة الموت" للكنيسة.
وفي مراسم جنازته، التي حظيت بمظاهر مودة عارمة، نال فرنسيس تصفيقًا حارًا من الحشود حين تحدث عنه الكاردينال جيوفاني باتيستا ري بحرارة، كما شهدت تيمور الشرقية قداسًا شارك فيه نحو 300 ألف شخص في اليوم ذاته.
انتخاب البابا
لكن انتخاب البابا لا يتم على السطح؛ فالمنافسة لا تُعلن، وكل من يطمح علنًا إلى الكرسي الرسولي يُقصي نفسه، فيما يُفترض أن يصوّت الكرادلة بما يمليه عليهم ضميرهم وتفسيرهم لإرادة الله.
مع ذلك، لا يُترك الأمر للدعاء وحده، بل يتضمن مناورات حذرة واستراتيجيات خفية.
بوادر انقسام
وظهرت بالفعل بوادر انقسام: فهناك من يرى ضرورة مواصلة الإصلاحات مع التركيز على التنوع الذي يعكس عالمية الكنيسة، خاصة مع ابتعاد مركز ثقلها عن أوروبا، وآخرون يرون أن الوقت قد حان للعودة إلى مسار أكثر استقرارًا ووحدة.
الكاتب الكاثوليكي أوستن إيفريغ لخّص هذا الانقسام بوضوح: فأنصار النهج الأول يرون في فرنسيس بداية لعهد جديد في الكنيسة، يُعلّم كيف نُبشّر اليوم ونحتفي بالاختلافات، فيما يرى الفريق الآخر في عهده اضطرابًا ينبغي احتواؤه، والدعوة إلى توحيد الصفوف من جديد.
مشروع "السينودس"
ومن بين رموز تيار "الوحدة"، الكاردينال غيرهارد مولر، الرئيس السابق لمجمع عقيدة الإيمان، الذي انتقد بشدة حبرية فرنسيس واصفًا إياها بالاستبدادية، وقال: "جميع الطغاة يُفرّقون".
ورغم أن الكثير من الكرادلة يثمّنون التزام فرنسيس بالهامشيين وقدرته على التواصل، فإن بعضهم يؤيّد شعار "الوحدة"، وينتقد نهجه الإصلاحي، وخاصة مشروع "السينودس" الذي ناقش مسألة قيادة المرأة وتوزيع السلطة داخل الكنيسة.
وقد أثارت تصريحات فرنسيس، التي انتقد فيها الكهنة المتشبثين بالمظاهر، ومنح البركة للأزواج من نفس الجنس، موجات من الرفض، خاصة في أفريقيا. ويبدو أن جماعة "الوحدة"، التي تضم بعض الكرادلة المتقاعدين، تسعى إلى نهج أقل اضطرابًا.
لمن يؤول الكرسي الرسولي ؟
وفي هذا السياق، يبرز الكاردينال بيترو بارولين، وزير خارجية الفاتيكان، كأبرز مرشح لهذا التيار.
ورغم أنه لا يُمثّل قطيعة تامة مع فرنسيس، فإن أسلوبه أكثر تحفظًا، إذ يشتهر بهدوئه وحنكته الدبلوماسية، وهو الذي أشرف على الاتفاق المؤقت مع الصين بشأن تعيين الأساقفة.
لكن منتقدي بارولين يشيرون إلى افتقاره للتجربة الميدانية مع الجماعات الكنسية، وأسلوبه الباهت كما ظهر في عظته أمام 200 ألف شاب بعد جنازة فرنسيس، حيث قرأ من ملاحظاته دون تفاعل يُذكر، على عكس البابا الراحل الذي كان يتحدث بعفوية ويشارك جمهوره التفاعل.
ويتمتع بارولين بدعم واسع من دبلوماسيي الكرسي الرسولي، ومن أبرز مؤيديه الكاردينال المتقاعد بنيامينو ستيلا، الذي فاجأ الجميع في 30 أبريل بهجومه العلني على قرارات فرنسيس بشأن إشراك العلمانيين والنساء في حوكمة الكنيسة، رغم أنه كان أحد أقرب المتعاونين معه.
لكنّ البعض يرى أن الدعوة إلى "الوحدة" تفتقد إلى الرؤية، إذ يشدد الكاردينال مايكل تشيرني على أن الوحدة، وإن كانت مهمة، لا يمكن اختزالها في شعار سياسي أو برنامج إداري.
قداسات الحداد التسعة
وخلال قداسات الحداد التسعة على البابا الراحل، كانت كل ليلة فرصة لتأمل إرثه. وفي واحدة منها، قال الكاردينال بالداسار رينا، نائب أسقف روما: "أفكر في الإصلاحات التي بدأها فرنسيس، والتي تتجاوز الحدود الدينية.. لقد رأى الناس فيه راعيًا عالميًا. هؤلاء الناس يتساءلون: ماذا سيحدث الآن؟"
لذلك، قد يكون الكاردينال ماريو غريتش، رئيس السينودس، مرشحًا مثاليًا للاستمرار على نهج فرنسيس، خصوصًا أنه أشرف على عملية أظهرت تنوع الكنيسة العالمية، ويشاركه في هذا التوجه الكاردينال الألماني رينهارد ماركس، والكاردينال جان كلود هوليريش من لوكسمبورغ.
وفي إطار الحديث عن "التنوع"، يُطرح اسم الكاردينال لويس أنطونيو تاغلي من الفلبين، لكنه ليس الاسم الوحيد المحتمل، بل مجرد أحد رموز الاتجاه الذي يسعى إلى بناء كنيسة جامعة ومنفتحة تعكس عالمية الإيمان الكاثوليكي في القرن الحادي والعشرين.