كلنا وصلنا.. سيدي جابر!

ولأننا كلنا ولاد الفساد، فقد ساد المفسدون على مقدَّراتنا، على طريقة الفنان أحمد زكي في فيلم الرائع عاطف الطيب "ضد الحكومة".. عندما قرر الثورة وهو المحامي الفاسد على "مافيا التعويضات" فقال أمام المحكمة في مرافعته التاريخية: "أنا ابن الفساد!".. كلنا بلا استثناء كنا فاسدين ومفسدين، ولم نزل. كلٌّ في مكانه، وعلى قدر حجمه، ولكننا نستحي من الحقيقة العارية، كما "نختشي" بالمصري الفصيح من مواجهة أنفسنا في مرايانا العاجزة عن أن تنظر في غير أقنعة "الصلاح" الزائفة!
ولست من هواة تعليق خيبتي على شماعة النظام السياسي، الذي كان انعكاسًا حادًّا وصارخًا وفجًّا لخطايانا، نعم هي الحقيقة المُرة التي تطاردنا ونحن ندَّعي الثورة على نظام مبارك، بنفس آليات عصر مبارك، وكلنا مبارك لو شئت الدقة الصادمة، والوجوه خلف الأقنعة _ إلا من رحم ربي _ تشهد بأننا لم نتخلَّ عما نطالب الآخرين بالتخلِّي عنه، أتحدث عن مجتمع أدمن الهروب من الحقائق، ويصدق أكاذيبه عن نفسه وعن الآخرين ببراءة المحترفين في قنص الفرص، وغشم من يصدقون أكاذيبهم من باب "الجدعنة"!
أنا منذ احترفت الكتابة في يناير 1994 وأنا أمارس، بما لا أقول، أسوأ أنواع الفساد، لأنني كنت أكتب عما يمكن أن يقال، أما ما لم أقل فهو أضعاف ما كتبت، ولم أحاسب على ما كتبت إلا في حدود ما كتبته من حقائق، ولكن لم تكن محاسبتي من قبل نظام مبارك إلا قليلاً، ففي عام 2002 بعد حريق قطار الصعيد، كتبت مقالاً بعنوان "الريس وصل سيدي جابر" والعنوان "سيم خاص" بالإسكندرانية، أحياه في ذاكرتي غير المثقوبة حوار بين محمد سلماوي والأديب الكبير نجيب محفوظ بعد نوبل، سأله فيه سلماوي: أين وصلت الآن؟! فأجاب محفوظ: وصلت سيدي جابر، وهو اصطلاح سكندري يقال عن الرجل إذا وصل محطته قبل الأخيرة في الحياة، وفشلت في نشر مقالي الغاضب وقتها داخل مصر، بصحافتها المعارضة والمهاودة طبعًا، لأنني قلت فيه ما لا ينبغي أن يقال، كنت مباشرًا ورومانسيًّا معًا، وكان أن حاسبني عليه النظام خير حساب، وتم تسريب وثيقة من وثائق مضروبة سرَّبها مترجم عبري معروف بنشاطه المخابراتي إلى إحدى المجلات اللندنية، تتهمني بالعمالة للمركز الأكاديمي الإسرائيلي، ولأن مزوِّرها لا يعرف إلا اسمي، كتب الاسم الثنائي بتاريخ لو كنت فعلت فيه هذا الاتهام، لكنت أصغر جاسوس للمركز الأكاديمي في مصر، وبتلقيح على عملي وقتها (في 2003) في ملف الحركات الإسلامية!
بعدها عرفت من مصادر أمنية أنها كانت قَرصة ودن على خفيف، علشان أبطل أفتري على أسيادي، وبالفعل، بطَّلت صحافة واتغرَّبت واتمرمطت، واتخرب بيتي ولم أواجِه، لأن رضا هلال مثل أمامنا كدليل عملي باختفائه القصري على أي واحد منا يمكن أن يفكر مجرد تفكير في كشف فساد "التانيين"!
وتخيَّل.. حاولت العمل بالفن، وفشلت المحاولة، وتعلمت صناعة النجوم كمصدر "أكل عيش" وأنا الذي دخلت بلاط صاحبة الجلالة من باب الكتابة في الإسلاميات، وكتبت "في نقد الإسلام الوضعي" الذي سمعت به الأجهزة الأمنية بعد الاحتفاء به في طهران، وترجمت مراجعاته من الفارسية للبحث عن أي إشارة لكون العبد لله شيعيًّا، وقطعت، أي الأجهزة الأمنية، عني أي اتصال مع طهران، والتي لم أذكرها بخير طيلة حياتي!
هذه الروايات لا أكتبها للمزايدة، وإلا كنت نجحت في استغلالها وقتها للحديث عن كوني مضطهدًا، وأنا الذي عُرض عليَّ استغلال قضية إفطار جهري في نهار رمضان ديسمبر 2001 لعمل طلب لجوء ديني إلى دولة أجنبية، ولم أفعل، وقرَّرت التأقلم والتكيُّف، فأصبحت متواطًئا في حب هذا الوطن، وتجميل مفاسد رجال حكمه، بالصمت على حقي الكامل في مواطنة غير منقوصة!
ولست أرويها إلا على سبيل التطهُّر، لأنني وأنا الثوري الذي كان يتخذ من العلمنة منهجًا في التفكير، اكتشفت الحقيقة المُرة بعد انتفاضة يناير، غير الثورية ولا السلمية على الإطلاق، أنني لم أكن ثوريًّا، لأنني لم أدفع ثمن حريتي الشخصية، وبعد سنوات من الوهم النخبوي والحداثي، أكتشف معكم وقد كتبت في كتابي "في نقد المثقف والسلطة والإرهاب" عن علمنة جديدة ضد العسكرة، وقلت إن معركة العلمانيين - وقد كنت نفرًا في كتائب نجومهم المجاهدين - وبين الإسلاميين، معركة وهمية لأنها خلوٌ من الشعب، وأننا يجب أن نجابه العسكرة التي مارست منهج الأمر والطاعة علينا منذ يوليو 52 وحتى يناير 2011 بعد أن اتفق الثوار والثائرون عليه على تفويض العسكر في إدارة شؤون البلاد!
والآن وبعد تجربة مُرة، ومريرة، من عمر ضاع في أوهام النخب العلمانية المصرية المنفصلة عن واقعها ومجتمعها، وبعد انتفاضة يناير، ومراجعات ما قبلها، أكتب بين أيديكم الآن، وبعد طلاق بائن مع تلك النخب الزائفة والمُزيفة للوعي المصري، والعودة إلى أحضان الشارع، قررت أن ألعب دور القاضي، لا المحامي، والحق أقول لكم: كلنا ضحايا.. كلنا جلادون!
نحن أسقطنا مبارك ليعيش 85 مليون مصري بوجه مبارك تحت أقنعة الثائرين.. كلنا خائبون، ثوار وخونة في آن.. والآن من كان منكم بلا خطيئة.. فليرمني بتعليق يتهمني فيه بالادِّعاء عليه بالفساد.. فالله غفور رحيم، لو تبنا عن فسادنا، وثُرنا على أنفسنا لإصلاح فسادنا الداخلي، كلٌّ على حدة.. قبل أن نثور على نظام كلنا أركانه، والله الموفق والمستعان!
وأخيرًا: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)