أكد الدكتور عطية لاشين، أستاذ الشريعة وعضو لجنة الفتوى بالأزهر، أن «الكدّ والسّعاية» حق للزوجة في ثروة زوجها إذا شاركته في تنميتها ببذل المال أو بالسعي والعمل أو بكليهما معًا.
«تزوجته فقيراً وساعدته ولما اغتنى تزوج عليّ»
جاء ذلك في إجابته عن سؤال، تقول صاحبته: «بدأت مع زوجي حياة زوجية متقشفة جدًا وصبرت عليه في البداية، وسهلت عليه في البداية تسهيلاً لا يحلم به أحد تكاليف الزواج، وكافحت معه وناضلت وصبرت وصابرت حتى ضحكت لهما الحياة وتبسمت، وياليتها ما تبسمت!، لأن زوجها حينما انزاح عنه التقشف وبعد عنه الفقر وجاءه التنعم، تزوج عليها، وأتساءل عن وجهة النظر الشرعية إزاء عدم الوفاء والتنكر لمجهودات ونضال الزوجة الأولى؟».
وأوضح العالم الأزهري، أن بعض المتأسلمين يسيئون إلى الإسلام بفهمهم المغلوط لما جاء بإباحته الإسلام، ويستغلونه استغلالاً شخصًيا لدوافع الله أعلم بها، وللأسف الشديد يتمسحون، ويدعون أنهم يطبقون ما جاء في شريعة الله -عز وجل- في الوقت الذي فيه يهملون أمر تطبيق المفروضات و المكتوبات في دين الله سبحانه.
وأضاف: فالإسلام أيها المتأسلمون حينما أباح التعدد أباحه بضوابط شرعية، وبقيود إسلامية، كان الهدف من هذه الضوابط، وتلك القيود حتى لا يضار واحدة من الزوجتين لأن الشيء إذا سبب ضررًا كان ممنوعًا وحرمه الإسلام ،يقول الله عز وجل : «وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ».
وتابع: وبحديث نبينا خير الأنام -صلى الله عليه وسلم-: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» وأخذًا بمبدأ سد الذرائع ومعناه أن الشيء المباح إذا كان يتوصل من خلاله إلى محرم فإن المباح يصير حرامًا نظرًا لما يفضي إليه، ويسببه من إلحاق الأذى بالآخرين، وتطبيقًا أيضًا لقاعدة «الأمور بمقاصدها».. أي إذا كان القصد من التصرف أن يتوصل به إلى منهي عنه شرعًا كان التصرف محرمًا وتطبيقًا لقوله -صلى الله عليه وسلم- : «إنما الأعمال بالنيات».
شروط تعدد الزوجات
وأفاد: «أقول ذلك لأن الإسلام أحاط التعدد بسياج وبأسلاك شائكة تمنع استخدامه كوسيلة لإلحاق الأذى بالآخرين، وأعني بالآخرين الزوجة الأولى وكذا الزوجة الثانية، ولذلك جعل الشرع التعدد لكي يكون مشروعًا ومباحًا اشترط له شرطين: الشرط الأول: أن يكون الزوج قادرًا على إعالة كل من الزوجتين على حدة وأولادهما دون أدنى تأثير على الحياة المادية للزوجة الأولى وأولادها وكذا الزوجة الثانية وأولادها فما لم يكن قادرًا على ذلك وغالبًا ما لا يكون قادرًا على الإنفاق على الزوجة الأولى وأولادها ويعدد بحجة أن الإسلام شرع ذلك.
وواصل: التاني لإباحة التعدد: تحقيق العدل بين من كانوا في عصمته، فإذا ظلمهما كلتيهما أو إحداهما كانت التعدد حرامًا، لأن ما أدى إلى الحرام يكون كذلك، وأذكركم مرة أخرى بقاعدة الأمور بمقاصدها، لأن التصرف بما يؤول إليه فإن آل إلى الحرام كان حراماً، وإن أدى إلى الحلال كان مباحًا ومشروعًا.
وأبان: نعود إلى موقف الزوجة الأولى التي بدأت حياتها الزوجية مع زوجها حياة التقشف والمنع والحرمان، وصبرت وصابرت ورابطت، وثابرت إلى أن تيسر لهما حياة كريمة وأصبحا في رغد من العيش، وعوضهما الله عن العسر، فأبدله يسرًا والفقر فأبدله غنى، والحرمان إلى الرفاهية والتنعم، لكن الحزينة جاءت لتفرح ما وجدت لها مطرحًا سرعان ما أتى لها الزوج بأخرى لم تذق الجديدة من الحرمان مثلما ذاقت الأولى ولم تحرم من ضروريات الحياة كما حرمت الأولى، جاءت كما يقولون لتأكل البيضة وهي متقشرة وقد كانت البيضة لم تعرف إلى هذا البيت طريقًا من قبل.
حق «السعاية والكد»
وأكمل: وأرى تحقيقاً للعدل وتعويضًا عن حياة الحرمان والتقشف التي كانت عليها بداياته الحياة الزوجية وتعويضًا لصبر الأولى، ومجهود الأولى وكفاح الأولى ومساهمة الأولى بنصيب الأسد في تكوين هذه الثروة أن يكتب لها تحقيقًا لمبدأ «السعاية والكد» نصف ثروته تأخذه خالصًا لها من دون الآخرين، وخاصًا بها وبعد أن يعطيها النصف في كل ما يملك لأنه كان ممن لم يملك من قبل ولها نصيب الأسد فيما ملك، ولولاها لكان ممن لا يملك وإذا أراد أن يعدد بعد ذلك ويتزوج فبالضوابط الشرعية السابقة وبالقيود الدينية السالفة وإلا أحجم، ولكي لا يفهم النساء ما قلت فهمًا على غير وجهه حينما ذكرت «الكد والسعاية» الذي بمقتضاه يكون للزوجة جزء في ثروة الزوج ليس ذلك لكل زوجة بل هذا للزوجة التي ساهمت ولولا مساهمتها ما كانت هذه الثروة.
حق الكد والسعاية في الأزهر
كان الإمام الأكبر أ.د/ أحمد الطيب، شيخ الأزهر، قد دعا من خلال برنامجه الرمضاني «الإمام الطيب»، إلى ضرورة حفظ حق «الكد والسعاية» للزوجة في ثروة زوجها، وفي عامٍ تالٍ لهذا التصريح كرَّر الأزهر الشريف دعوته إلى إحياء هذه الفتوى في بيانه الختامي لمؤتمر التجديد المُنعقد في يناير من عام 2020م، والذي جاء فيه: «يجب تعويض المُشترِك في تنمية الثَّروة العائلية، كالزَّوجة التي تخلِط مالَها بمال الزوج، والأبناء الذين يعملون مع الأب في تجارة ونحوها، فيُؤخَذ من التَّركة قبل قسمتها ما يُعادِل حقَّهم، إن عُلِمَ مقداره، أو يُتَصَالَح عليه بحسب ما يراه أهل الخِبرة والحِكمة إن لم يُعلَم مقداره».
«الكدّ والسّعاية» فتوى تُراثية
حقّ المرأة في «الكدّ والسّعاية» فتوى تُراثية، يرجع أصلها الفقهي إلى أدلَّة الشَّريعة الإسلامية الواردة في حِفظ الحُقوق، والمُقرِّرَة لاستقلالية ذمّة المرأة الماليّة، والتي منها قول الحقِّ سُبحانه: «لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ۖ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ» [النساء: 32]، إضافةً إلى قضاء الخليفة الرّاشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحق زوجةٍ في مالِ زوجها الذي نمَّياه معًا قبل تقسيم تركته، ثم قضى بمثلِه كثيرٌ من القُضاة والفُقهاء عبر العُصور؛ سيّما فقهاء المذهب المالكي.
يُفتي الأزهر الشريف عبر تاريخه بما استقر فقهًا من ضرورة حفظ حقوق المُساهمين في تكوين وتنمية الثّروات والتّركات، وإحياؤه لفتوى الكدّ والسّعاية إحياءٌ لمنهجها واصطلاحها وتراثها؛ لكثرة المخالفات الواقعة في شأنها بالتزامن مع زيادة مُشاركات النساء في تنمية ثروات أزواجهن، وخروجهن لسوق المال والأعمال.
حقّ الكدّ والسّعاية ليس حقًّا خاصًّا بالزوجة في مال زوجها، بل هو ما يستحقه كل من ساهم بماله أو بجهده في تنمية أعمال أحدٍ وثروته، كالابن والبنت إذا ساهما في تنمية ثروة أبيهما بالمال والعمل أو بأحدهما، وكابن الأخ مع عمّه، ونحو ذلك.
«الكدّ والسّعاية» حق للزوجة في ثروة زوجها إذا شاركته في تنميتها ببذل المال أو بالسعي والعمل أو بكليهما معًا، ومن صور مشاركتها العملية: عملها معه ببدنها في مشروع أو شركة أو صنعة ونحو ذلك، ومن صور المشاركة المالية: إعطاؤه من هبة أبيها لها أو من هبة غيره، أو ميراثها من أبيها أو من غيره، أو من راتب عملها، أو من صَداق زواجها، أو مقتنياتها، أو حُليِّها، ونحو ذلك مما امتلكته، وكان في ذمتها المالية المُستقلّة التي قرّرها الإسلام لها.
حقّ الكدّ والسّعاية للزوجة لا يُقدَّر بنصف ثروة الزوج أو ثلثها، وإنما يُقدّر بقدر مالِ الزوجة المُضاف إلى مال زوجها وأرباحه، وأجرة سعيها وكدِّها معه، ويمكن للزوجة المطالبة به أو المسامحة فيه أو في جزء منه.
من إنصاف الزوج وحسن عشرة زوجته أن يعطيها حقها في الكدّ والسّعاية وتكوين ثروتهما في حياته بنفسه، لتجعله في ذمتها المالية الخاصّة، وليُبقِي في ذمته ما كان ملكًا خالصًا له، ممّا تجري عليه أحكام الشريعة حال حياته في الزّكاة ونحوها، وبعد وفاته في الميراث ونحوه.
للزوجة أن تتفق مع زوجها على تحرير ما يُثبت حقها في عمله أو ماله قبل مشاركتها معه في تنمية ثروته بالجهد أو المال أو بعد مشاركتها، وإن لم يوثقا الحق كان الإثبات من خلال قواعد الإثبات العامّة شرعًا وقانونًا وعُرفًا.
لا يتعلق أخذ الزّوجة حقّ كدّها وسعايتها من ثروة زوجها بانتهاء زوجيتهما بوفاة أو انفصال، وإنما هو حقّ للمرأة حال حياة زوجها وبقاء زوجيتهما، لها أن تأخذه أو تتسامح فيه؛ إذ الأصل فيه أنه مال للزوجة جعلته على اسم زوجها لاتحاد معايشهما ومصالحهما الأسرية.
يُستوفَى حقّ المرأة في الكدِّ والسعاية من تركة زوجها المُتوفَّى مع قضاء ديونه، وقبل تقسيم تركته قِسمة الميراث الذي تَستحقّ منه نصيب الزوجة، أي: فرض الرّبع إن لم يكن لزوجها أولاد، أو الثّمن إن كان له أولاد منها أو من غيرها.
حقّ المرأة في الكدّ والسّعاية مُتعلق بأعمال ومُعاملات الزّوجين الماليّة دون غيرها إن اشتركا فيها بالمال والعمل أو بأحدهما على النّحو المذكور آنفًا.
أعمال المرأة المنزلية لا تدخل في حقّ الكدّ والسّعاية، فعمل الرّجل خارج المنزل خدمة ظاهرة لزوجته وأهل بيته حتى يُوفر لهم النّفقة، وأعمال المرأة المنزلية خدمة باطنة لزوجها وأبنائها حتى يتحقّق السّكن في الحياة الزّوجية.
نفقة الزّوج على زوجته بحسب يساره وإعساره حقّ واجب عليه قرّره الإسلام لها، ولا يُغني التزام الزّوج بالنّفقة على زوجته عن حقّها في كدّها وسعايتها في عملٍ كَوَّن ثروتهما على النحو المذكور.
العلاقة الزّوجية علاقة سَكَن تكامُليّة، تقوم على المودة والمُسامحة، وليست علاقة نديّة أو استثمارية ماديّة نفعيّة، ولا يليق بقدسيّة الزّواج ومكانة الزّوجة فيه أن تُعامَل معاملة الأجير في أسرتها، بأن تُفرَض لها أجرة محددة نظير أعمال رعاية أولادها وزوجها، وإنما على الزّوج واجب النّفقة بالمعروف لها ولأولادهما وبيتهما كما تمّ بيانه.
بنى الإسلام الحياة الزّوجية على الرّحمة وحُسن العِشرة، وقسّم أدوارها ووزّع مُهماتها بشكل يتناسب وطبيعة طرفيها وملكات كلٍّ منهما وإمكاناته، وحدَّد ما ينبغي أن يكون غاية لها، وما ينبغي أن يكون وسيلة يُتوصل بها إلى غيرها في عدالةٍ بديعة، ورُقي مُنقطع النَّظير في الشَّرائع والنُّظم الاجتماعية كافَّة.