منْ منا لم يعاني قسوة الأيام، ومنْ منّا لم يمر بضيق يجتاح النفس؟، ومنْ منّا لم تمر به نوازل الدهر؟، ومنْ منا لم يشعر بحاجة ملحة تجاه قرب الآخرين منه؟، هنا نستشعر أهمية جبر الخواطر، التي تزيل آثارًا تراكمت على الوجدان، حينئذٍ نتنفس الصعداء، من خلال يد ربتت على أكتافنا، أو كلمات رطبة لامست جفون القلب، أو نظرة مفعمة بابتسامة أدخلت سرورًا على الفؤاد، أو إعانة أخرجتنا من ضيق السؤال إلى واحة الاطمئنان، أو بموقف نبيل، ووقفة مساندة، أبهجت الصدور، وأخرجتنا من حيّز الانكسار إلى ساحة الأمل، والتفاؤل؛ لنستكمل مسيرة الحياة، ولدينا وقود طاقة متجددة، تعيننا على بلوغ الغاية، وتحقيق المنشود.
نوقن أن الضعف حالة إنسانية، نمر ببوابتها مهما امتلكنا من ملكات، وقدرات، ومقوّمات، ومهما تظاهرنا بالشجاعة، وتحلّينا بالصبر، والجأش، والرباط المتماسك؛ فأرواحنا تتوق دومًا إلى معانقة منْ نحب، ومرافقة منْ نستريح له، والاندماج مع منْ نهوى، ونعشق؛ ومن ثم تهرول النفوس تجاه من يرويها بفيض جبر الخاطر؛ لتنهل من كأس ممتلئ بشراب غذاء الوجدان، مفعم بسحر كلمات، وطيب ممارسة، ومشاعر رقراقة، تعبر عن سعادة نقرؤها من عيون نقية، وقلوب صافية، لا تكن إلا مكنون الرضا، ولا تشمل في ثناياها إلا ما يعزز سياج المحبة.
جبر الخواطر يخلصنا من جفاء النفوس؛ فتزداد وتيرة العاطفة الجياشة، وتتباعد صور الفرقة والفراق؛ فيبدو التجاوب فيما بينا في صورته، التي ننشدها؛ فلا تؤثر في وجدانياتنا مواقف عبرت عن خذلان، أو إهمال، أو غدر؛ فتروق طباعنا، ونستوعب بعضنا البعض، مهما تعالت ضغوط الحياة، ومهما انشغلت أذهاننا بقضايا، تشكل أهمية بالغة لنا، ومهما انغمسنا في أعمال، أرهقت الأبدان؛ فيغدو الاحتضان عبر العاطفة منجاة من العزلة، التي تجعل الإنسان منا يميل إليها؛ رغبة واهية منه في أنه الهدوء، الذي ينشده، والملاذ، الذي يريح نفسه، وعقله؛ فما أحوجنا! إلى مناخ اجتماعي، يذيب الهموم، ويخلصنا من طاقتنا السلبية.
هناك قلوب ترى جبر الخواطر بمثابة مطر الحياة، الذي يخرج الكلأ من صحراء النفوس، التي أُظلمت، جرّاء تعرضها لمسببات ساعدت في إحداث جفاف، وشقوق غائرة، هنا ندرك ماهية الجبران، الذي يجعلنا نتعلق بطريق النجاة، ونستعيد التوازن، ونخرج أفضل ما فينا من متلون الخير، الذي نبدره، ولا ننتظر شكرًا، أو ثناءً عليه من بشر؛ فجبر الخاطر يعوضنا بنور يملأ القلوب، وسعادة تسعها الصدور، ومشاعر فياضة، تُعلى مقدار الإيجابية، التي تباعد بيننا، وبين دروب الأنانية، المورثة صور التعالي، والكبرياء، والتجبر على بني البشر.
علاقاتنا الإنسانية تبدو في جمالها؛ حينما تسود فلسفة جبر الخواطر بيننا؛ فيتوقف طغيان طوفان المصالح، ويستبدل برفاهية مشاعر، وأحاسيس تكن المحبة، والتقدير، وتعزز الوئام، وتضمد الجراح، وتصرف حالات، تنتاب منْ يعاني من اضطرابات الحياة؛ فيتبدد القلق، وتزول نوازع الاكتئاب؛ لنرى بيئات تفاعلية قوامها الود، وباطنها تفاعل، دون حدود يفصلها زمان، ومكان؛ فيغاث الملهوف، ويُعان ذو الحاجة، ويُشفى المريض؛ ومن ثم ندرك ماهية قيمة الحياة الحقيقية، التي تغلفها الطمأنينة، والسكينة على حد سواء.
دوائر القلوب المفتوحة تجبر الخواطر؛ لأن ساحتها تستوعب الآخرين، وتبدد همومهم، وتجعلهم يستعيدون مقدرتهم على استكمال مسيرة النضال في حياة مليئة بالعثرات، ومحاطة بتحديات، وأزمات، وهذا يجعلنا نشبه من يجبرون الخاطر بمرفأ الحنان، الذي يشع دفئًا، يرمّم الجراح، ويخلص من الآلام؛ فتطمئن على سطحه القلوب، والأرواح؛ إذ تشعر بسكينة الاحتواء، وطمأنينة تداوي كافة الأوجاع، وهنا نقر بأن الفعل المحمود يزيد من وفاق، وتآلف بني الإنسان، الذي يثابر طواعية من أجل تحقيق غاية الاستخلاف.
تعالوا بنا نتسابق؛ من أجل جبر الخواطر؛ لنعيد إلى الحياة بوارق الأمل، ونعزز مساحة التفاؤل، ونعضد صور العلاقات، ونتشارك سويًا في الاتصاف بالرحمة، التي حتمًا تزيل فوارق فرضناها؛ فأضرت بإنسانيتنا، دعونا نجتمع على مائدة الحب والوئام؛ لنتفادى منعطفات حياة قد تكسر بخواطرنا.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
د. عصام محمد عبد القادر يكتب: جبر الخواطر.. الحاجة والأثر
