في وقت يشهد العالم تصاعد التوترات الإقليمية والدولية، برزت القاهرة مجددًا كعاصمة للدبلوماسية الهادئة، بعدما استضافت لقاءً حساسًا بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية.
اللقاء الذي جاء برعاية مباشرة من القيادة المصرية، أسفر عن توقيع اتفاق جديد لاستئناف التعاون الفني بين الجانبين، وسط إشادة إيرانية علنية بالدور الذي لعبته مصر في تيسير هذا المسار. وبينما لا يزال الملف النووي الإيراني واحدًا من أعقد الملفات على الساحة الدولية، فإن وساطة القاهرة فتحت نافذة جديدة للأمل، ورسخت مكانة مصر كوسيط لا غنى عنه في معادلات المنطقة.
مصر... جسر يربط بين القوى المتباعدة
لم يكن اختيار القاهرة لعقد هذا اللقاء صدفة، بل امتدادًا لدورها التاريخي كجسر تواصل بين القوى المتنافرة. فمجرد جمع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، تحت سقف واحد، وبحضور وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، يمثل إنجازًا في حد ذاته.
هذا المشهد يذكّر بدور مصر التقليدي كحاضنة للحوار الإقليمي، ويؤكد أن القاهرة ما زالت تملك القدرة على إدارة الملفات الشائكة التي فشلت قوى أخرى في احتوائها.
رسائل سياسية على أكثر من مستوى
التحرك المصري لم يكن مجرد وساطة تقنية تخص الشأن النووي الإيراني، بل حمل رسائل سياسية متعددة الأبعاد:
إلى القوى الدولية: مصر ما زالت شريكًا موثوقًا في قضايا الأمن النووي والاستقرار الإقليمي، وقادرة على لعب دور الوسيط النزيه الذي يحظى بثقة جميع الأطراف.
إلى الإقليم: القاهرة ترفض منطق الاصطفاف وراء محور ضد آخر، وتؤكد التزامها بسياسة التوازن، القائمة على الحوار بدلاً من التصعيد.
هذه الرسائل تؤكد أن أي ترتيبات مستقبلية تخص المنطقة لن تكون مكتملة من دون مصر، سواء في الملف النووي الإيراني أو في قضايا الأمن الإقليمي الأوسع.
التوازن الدقيق في السياسة المصرية
أحد أبرز ملامح نجاح القاهرة في هذا الملف هو قدرتها على الحفاظ على التوازن. فمصر، على الرغم من علاقاتها الوثيقة مع الولايات المتحدة والدول الخليجية، لم تتردد في فتح أبوابها أمام وزير الخارجية الإيراني، ومنحه منصة دولية لتوقيع اتفاق مع الوكالة الذرية.
هذا التوازن لم يكن مجرد خطوة بروتوكولية، بل يعكس سياسة راسخة تستند إلى رؤية مصرية ترى أن الحوار هو السبيل الأمثل لتخفيف التوترات وتجنب الانزلاق إلى مواجهات مفتوحة.
إشادة إيرانية غير مسبوقة
وزير الخارجية الإيراني لم يكتفِ بتقدير الدور المصري خلف الكواليس، بل اختار أن يعلن شكره علنًا عبر منصة "إكس". وأكد عراقجي أن الاتفاق ما كان ليُبصر النور لولا "المساعي البارزة والبناءة" التي بذلها وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، والدعم المباشر من الرئيس عبد الفتاح السيسي.
هذا الامتنان الإيراني العلني يعكس خصوصية اللحظة، إذ نادرًا ما تبدي طهران اعترافًا علنيًا بدور دولة عربية في ملف بهذه الحساسية.
مصر كجسر للتواصل بين القوى المتباعدة
يرى اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، أن احتضان مصر لهذا اللقاء لم يكن صدفة، بل امتدادًا لدورها التاريخي كجسر تواصل بين قوى متنافرة. فمجرد جمع وزير الخارجية الإيراني مع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحضور وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي، هو في حد ذاته إنجاز يعكس قدرة القاهرة على فتح قنوات الحوار حتى في الملفات الأكثر تعقيدًا.
هذه الصورة أعادت التذكير بدور مصر التقليدي كحلقة وصل، وهي الصورة التي تحتاجها المنطقة في وقت تزداد فيه التوترات والصراعات.
رسائل سياسية مزدوجة إلى العالم
الدور المصري حمل رسائل واضحة ومتعددة المستويات.
إلى القوى الدولية: أن القاهرة لا تزال شريكًا موثوقًا في قضايا الأمن النووي والاستقرار الإقليمي، وأنها قادرة على لعب دور الوسيط النزيه الذي يحظى بثقة الأطراف المختلفة.
إلى القوى الإقليمية: أن مصر لا تتبنى سياسة المحاور أو الاصطفاف خلف طرف ضد آخر، بل تميل إلى نهج التوازن والبحث عن حلول دبلوماسية تُراعي مصالح جميع الأطراف.
هذه الرسائل، بحسب الخبير، تجعل من مصر طرفًا لا يمكن تجاوزه في أي محادثات مقبلة تخص المنطقة، سواء تعلق الأمر بالملف النووي الإيراني أو بقضايا الأمن الإقليمي عمومًا.
توازن دقيق في المواقف المصرية
أحد أهم ما يميز القاهرة في هذا المشهد هو حفاظها على توازن دقيق. فمصر، رغم علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة والدول الخليجية، فتحت أبوابها أمام وزير الخارجية الإيراني، ومنحته منصة دولية لتوقيع اتفاق مع الوكالة الذرية. هذا التوازن ليس مجرد مناورة سياسية، بل تعبير عن سياسة مصرية راسخة تقوم على تجنب التصعيد وتفضيل الحوار والبحث عن أرضية مشتركة.
مكاسب استراتيجية لمصر
من زاوية الأمن القومي والسياسة الخارجية، يرى السيد أن الدور المصري في هذا الاتفاق يحقق عدة مكاسب مهمة:
تعزيز مكانة مصر الدولية كوسيط موثوق قادر على جمع أطراف متباعدة.
إعادة القاهرة إلى قلب المشهد الإقليمي بعد فترة من الانكفاء النسبي عن بعض الملفات الكبرى.
بناء رصيد دبلوماسي جديد يمكن استثماره لاحقًا في ملفات أخرى لا تقل أهمية، مثل القضية الفلسطينية أو الأزمات المتصاعدة في السودان وليبيا.
اتفاق يحمل بصمة مصرية واضحة
الخبير الاستراتيجي يشير إلى أن الاتفاق بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية لا يمكن فصله عن الجهد المصري المباشر، سواء عبر التحركات المكثفة لوزير الخارجية بدر عبد العاطي، أو من خلال دعم الرئيس عبد الفتاح السيسي الكامل للعملية. وهذا ما يفسر الامتنان الإيراني العلني للقاهرة، وهو موقف نادر يعكس وزنًا خاصًا لمصر في هذه المرحلة الدقيقة.
اللقاء الذي جمع إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية في القاهرة لم يكن مجرد حدث بروتوكولي يُسجّل في أرشيف الدبلوماسية، بل خطوة استراتيجية تعيد مصر إلى صدارة المشهد الإقليمي كلاعب لا غنى عنه.
فمن خلال هذه الوساطة، أثبتت القاهرة أنها قادرة على تحويل الخلافات إلى فرص للحوار، وأنها ما زالت تمتلك الأدوات اللازمة لتكون وسيطًا متوازنًا يحظى بقبول مختلف الأطراف. وبينما يبقى الملف النووي الإيراني معقدًا ومليئًا بالتحديات، إلا أن الوساطة المصرية أظهرت أن الدبلوماسية قادرة على فتح ثغرات في جدار الأزمات، وهو ما يعزز مكانة مصر كفاعل محوري وضروري في معادلة الاستقرار الإقليمي والدولي.