في خطوة اعتبرها مراقبون نقطة تحول كبرى في العلاقة بين التكنولوجيا والسياسة، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يوم الخميس، أمراً تنفيذياً يسمح لتطبيق "تيك توك" بمواصلة عمله في السوق الأمريكية، لكن تحت إدارة أمريكية كاملة.
القرار، الذي ارتبط بصفقة استثمارية ضخمة تصل قيمتها إلى نحو 14 مليار دولار، لم يكن مجرد تسوية تجارية، بل جاء ليعكس حجم المخاوف الأمريكية من النفوذ الصيني المتصاعد في الفضاء الرقمي، ورغبة واشنطن في إعادة السيطرة على واحدة من أكثر المنصات تأثيراً بين الشباب.
خلفية الأزمة.. أمن البيانات في قلب الصراع
منذ ظهور الجدل حول "تيك توك"، ظل ملف حماية البيانات هو العنوان الأبرز للنزاع الأمريكي الصيني فقد أبدت واشنطن مراراً تخوفها من احتمال وصول الحكومة الصينية إلى معلومات المستخدمين الأمريكيين من خلال الشركة الأم "بايت دانس".
ويرى خبراء أمن المعلومات أن هذا التخوف لم يكن محض افتراض سياسي، بل انعكاساً حقيقياً لصراع أوسع يتعلق بالسيطرة على الفضاء السيبراني العالمي.
ولعل هذا ما دفع الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة جو بايدن إلى إصدار تشريعات تلزم "بايت دانس" ببيع أصول "تيك توك" لشركات أميركية، أو مواجهة حظر شامل للتطبيق.
ترامب: صفقة تحمي البيانات وتبقي التطبيق
الرئيس ترامب، الذي تبنى خطاباً صارماً تجاه الصين، بدا أكثر مرونة هذه المرة، إذ أعلن أن الاتفاق الجديد يضمن بقاء "تيك توك" في السوق الأمريكية مع حماية خصوصية بيانات المواطنين.
قال ترامب خلال إحاطة بالمكتب البيضاوي: "كان هدفنا أن نحافظ على التطبيق وألا نعرض بيانات الأمريكيين لأي تهديد خارجي. تحدثت مع الرئيس الصيني شي جين بينغ حول الأمر، وقد وافق على الصفقة المقترحة"، في إشارة إلى وجود تفاهمات على أعلى مستوى بين واشنطن وبكين.
مستثمرون كبار يمنحون الصفقة ثقلها
الصفقة لم تتوقف عند حد الموافقة السياسية، بل شهدت دخول مستثمرين من العيار الثقيل مثل مايكل ديل وروبرت مردوخ، إلى جانب مجموعة من كبار رجال الأعمال الأمريكيين.
هذا الانخراط، بحسب المراقبين، لم يأت من فراغ؛ فهو يمنح الاتفاق مصداقية اقتصادية وإعلامية، ويطمئن الأسواق والمستخدمين على مستقبل التطبيق. كما أنه يضع "تيك توك" في موقع أقوى لمنافسة المنصات الأخرى مثل "إنستغرام" و"يوتيوب شورتس".
منصة جماهيرية تتجاوز حدود الترفيه
مع أكثر من 170 مليون مستخدم أمريكي، أصبح "تيك توك" أكثر من مجرد تطبيق لمقاطع الفيديو القصيرة. فقد تحوّل إلى منصة مؤثرة في تشكيل الرأي العام وصياغة النقاشات المجتمعية، بل وحتى في الحملات السياسية.
ترامب نفسه لم يتردد في الاعتراف بدور "تيك توك" في تعزيز تواصله مع الجمهور خلال حملاته الانتخابية الأخيرة، حيث يتابع حسابه الشخصي أكثر من 15 مليون مستخدم. كما أطلق البيت الأبيض مؤخراً حساباً رسمياً على المنصة، في خطوة تعكس إدراك الإدارة الأميركية لأهمية "تيك توك" كأداة اتصال مباشر مع الشباب.
حماية البيانات وأولوية الأمن القومي
يرى المهندس ممدوح محمد، خبير تكنولوجيا وأمن المعلومات، أن جوهر الأزمة كان دائماً يتمثل في ملف حماية البيانات الشخصية للمستخدمين الأمريكيين فقد ظلت واشنطن تشكك في احتمالية وصول الحكومة الصينية إلى معلومات المستخدمين عبر الشركة الأم "بايت دانس".
وبحسب الاتفاق الجديد، ستكون إدارة البيانات تحت إشراف أمريكي كامل، وهو ما يعتبره خبراء بمثابة "إعادة تموضع" للتطبيق داخل السوق الأمريكية، وليس مجرد صفقة مالية عابرة.
مستثمرون كبار يمنحون الصفقة مصداقية
الصفقة لم تقتصر على الجانب الحكومي فقط، بل شهدت دخول أسماء عالمية ذات وزن اقتصادي وإعلامي مثل مايكل ديل وروبرت مردوخ إلى جانب مستثمرين آخرين.
هذه المشاركة، بحسب المراقبين، تعطي ثقلاً مالياً وتقنياً للاتفاق، وتبعث برسالة طمأنة للمستخدمين والمستثمرين بأن "تيك توك" سيبقى مستقراً وآمناً في الولايات المتحدة.
ويرى الخبراء أن وجود مستثمرين بهذا الحجم يعزز ثقة السوق ويزيد من فرص نجاح التطبيق في مواصلة نموه وسط المنافسة الشرسة مع منصات أخرى.
منصة مؤثرة اجتماعياً وسياسياً
يشير ممدوح محمد إلى أن القرار يكرّس التطبيق كأحد أبرز أدوات التأثير في الرأي العام، لا سيما أن الرئيس ترامب نفسه أقر بدور المنصة في حملاته الانتخابية.
ولم يكن مستغرباً أن يعلن البيت الأبيض مؤخراً عن إطلاق حساب رسمي على "تيك توك"، في خطوة تعكس اعتراف الإدارة الأمريكية بأهمية هذه المنصة في التواصل مع الأجيال الشابة.
التحدي الأكبر.. استقلالية تقنية حقيقية
ورغم الأجواء الإيجابية التي صاحبت توقيع الاتفاق، يظل السؤال الأهم.. هل يكفي نقل الملكية لضمان الاستقلالية التقنية الكاملة؟
الخبراء يحذرون من أن الأمر يتطلب أكثر من مجرد تغيير في أسماء المالكين. فالخوادم وأنظمة الحماية وطرق معالجة البيانات يجب أن تكون مستقلة تماماً عن أي نفوذ خارجي. وهذا يعني ضخ استثمارات إضافية وبناء تعاون وثيق بين الفرق الأميركية الجديدة ومطوري التطبيق الأصليين لضمان الشفافية والأمان.
يمكن القول إن صفقة "تيك توك" ليست مجرد اتفاق تجاري بقيمة 14 مليار دولار، بل هي فصل جديد في الحرب الباردة الرقمية بين الولايات المتحدة والصين. إنها تعكس كيف أصبحت التطبيقات والمنصات الرقمية أدوات نفوذ سياسي واقتصادي، بقدر ما هي أدوات ترفيهية.
ومع أن القرار التنفيذي منح "تيك توك" فرصة للبقاء والتوسع، إلا أن نجاح هذه الخطوة سيُختبر في الشهور المقبلة، من خلال مدى قدرة الإدارة الأمريكية الجديدة للتطبيق على تحقيق استقلالية تقنية حقيقية، وضمان أمن بيانات الملايين من المستخدمين.
وبين السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، يبقى "تيك توك" أحد أبرز وجوه الصراع العالمي على قيادة المستقبل الرقمي.