مع نهاية عام 2025 أهدي المكتبة المصرية والعربية هذا الإصدار الذي اعتز به كثيراً وهو " مصر القديمة وسياستها الخارجية فمنذ سنوات طويلة وأنا أجد نفسي مشدودًة إلى صفحات التاريخ المصري القديم، ذلك التاريخ الذي لا تنطفئ شعلته، ولا تفنى حقيقته، ولا ينضب ما يقدّمه من دروس ومعانٍ. وكلما تعمّقت في دراسة حضارتنا العريقة، اكتشف أن تأثيرها لا يكمن فقط في أهراماتها الشامخة أو معابدها المهيبة، بل في الفكر السياسي والإنساني الذي أبدعه المصري القديم، وفي قدرته على أن يبني نموذجًا حضاريًا متوازنًا يجمع بين القوة والحكمة، بين الروح والعقل، بين الأرض والسماء.
ومن بين الجوانب التي جذبت اهتمامي وأثارت دهشتي، تاريخ الدبلوماسية المصرية الذي يكشف عن رؤية استثنائية لإدارة الدولة وعلاقاتها مع العالم. لقد وجدت في النصوص والبرديات والنقوش ما يؤكد أن المصري القديم لم يكن مجرد صانع حضارة مادية، بل كان أيضًا مهندسًا لفنون السياسة والتفاوض، قادرًا على تحويل الجغرافيا والتاريخ إلى لغة تفاهم لا إلى ساحة صراع.
كتبت هذا الكتاب بدافع حب عميق وانتماء راسخ لهذه الأرض التي حملت أعظم الحضارات الإنسانية. أكتبه وأنا أستحضر صور ملوك عظماء وقفوا في وجه الزمن يكتبون رسائل السلام، ويوقعون المعاهدات، ويشيدون التحالفات، ويستخدمون الدبلوماسية لحماية أمن البلاد قبل أن تُرفع السيوف. وأستحضر أيضًا دور القيم المصرية الأصيلة—قيمة ماعت—التي لم تكن مجرد مفهوم ديني وإنما كانت فلسفة حكم، تقوم على العدل، والانضباط، واحترام الآخر، وتقدير الحياة.
لقد آمنت مصر منذ أقدم عصورها بأن قوتها لا تُقاس فقط بعدد الجند أو اتساع الأراضي، بل بقدرتها على أن تُقنع، وتبني، وتُقيم جسورًا بين الأمم. كانت تعرف كيف تمزج بين القوة الناعمة من المعرفة، والثقافة، والرمزية الدينية وبين القوة الصلبة عندما يتطلب الأمر حماية حدودها وفرض سيادتها. كانت دولة لا تتردد في الحوار، ولا تتهاون في الحق، ولا تتخلى عن دورها المحوري في الشرق القديم.
وفي كل صفحة من هذا الكتاب، سعيت إلى أن أقدم للقارئ خلاصة ما تعلمته من دراسة هذا التاريخ العظيم أن الدبلوماسية المصرية لم تكن طارئة ولا هامشية، بل كانت ركيزة أساسية في بناء الدولة، وحجر زاوية في استقرارها، ووسيلة فعّالة لصنع التوازن والسلام في محيطها. لقد أثبتت مصر عبر عصورها أن الحوار يمكن أن يكون حصنًا منيعًا، وأن الحكمة يمكن أن تسبق السيف، وأن الدولة القوية هي تلك التي تفرض احترامها قبل هيمنتها.
أكتب هذا العمل وفي قلبي شعور بالامتنان لتلك الحضارة التي نفتخر بأنها جزء من هويتنا. حضارة صاغت أولى المعاهدات في التاريخ، وأرست مفهوم العلاقات الدولية، وعلّمت العالم معنى الالتزام بالعهود والقيم. ولعل هذا الكتاب محاولة صغيرة لتسليط الضوء على تلك الصفحات الزاخرة التي لا تزال تشهد على عمق الفكر المصري وقدرته على الإبداع والتأثير.
أسأل الله أن يكون هذا الجهد إضافةً نافعة لدارسي التاريخ ومحبي الحضارة المصرية، وأن يسهم في إعادة قراءة تراثنا بعين تُقدّر الماضي وتستلهم منه المستقبل.
وآمل أن يجد القارئ في هذه الصفحات ما وجدته أنا: إجلالًا لمصر، وفخرًا بتاريخها، واعتزازًا بانتمائنا إلى واحدة من أعظم حضارات الإنسانية.