في لحظة فارقة تشهدها المنطقة، يعيش السودان حالة طوارئ غير مسبوقة مع ارتفاع مناسيب المياه في النيل وإعلان "الإنذار الأحمر" على طول مجرى النهر. وبينما تتعالى المخاوف من كارثة إنسانية وبيئية وشيكة، تتجه الأنظار إلى مصر بوصفها الطرف الأكثر ارتباطاً ومواجهة للتداعيات المستقبلية. إلا أن القاهرة، وفق رؤية خبراء استراتيجيين، لم تُفاجأ بما يجري اليوم، بل استعدت مبكراً عبر خطط طويلة الأمد، جعلتها أكثر قدرة على مواجهة السيناريوهات القاسية، مع تحرك دبلوماسي واسع نجح في وضع أديس أبابا تحت ضغط دولي متزايد.
رؤية خبير استراتيجي: استعداد مبكر وتحرك واثق
يرى اللواء نبيل السيد، الخبير الاستراتيجي، أن مصر أدركت منذ سنوات أن ملف سد النهضة يتجاوز كونه مشروعاً مائياً إلى كونه تهديداً استراتيجياً شاملاً، فاختارت مسار الاستباق بدلاً من رد الفعل. وقد ترجمت القاهرة ذلك عبر حزمة مشاريع كبرى، أبرزها تبطين الترع لتقليل الفاقد المائي، والتوسع في إنشاء محطات التحلية والمعالجة، وتحديث نظم الري الزراعي. هذه الإجراءات جعلت مصر في موقع أفضل للتعامل مع أي تقلبات مفاجئة في تدفقات النيل، سواء جاءت من سد النهضة أو من الفيضانات الطبيعية.
ويشير السيد إلى أن هذه الجهود لا تنفصل عن مسار دبلوماسي نشط تبنته القاهرة، حيث تحركت في المحافل الإقليمية والدولية لإقناع المجتمع الدولي بأن إدارة السد الإثيوبي لا يمكن أن تتم بمعزل عن دولتي المصب، وهو خطاب بات يجد صدى متزايداً مع تفاقم الأزمة في السودان.
البعد المصري في إدارة الأزمة
يؤكد التحليل الاستراتيجي أن مصر تتعامل مع الملف وفق ثلاثة محاور رئيسية:
الاستعداد المسبق: وضعت القاهرة خططاً لمواجهة مختلف السيناريوهات، من زيادة مفاجئة في تصريف السد وصولاً إلى تراجع منسوب النيل.
التحرك الدبلوماسي: تسعى مصر لإقناع القوى الكبرى بأن الأزمة لا تخص المياه فقط، بل ترتبط بشكل مباشر بالأمن الإنساني والإقليمي.
الربط بين الأمن القومي والإقليمي: الأوضاع في السودان تكشف أن أي قرار أحادي من إثيوبيا قد يتحول إلى تهديد وجودي لدولتي المصب، مما يعزز شرعية الموقف المصري أمام العالم.
المجتمع الدولي يدخل على خط الأزمة
مع إعلان السودان حالة الإنذار القصوى، أصبح من الصعب على المجتمع الدولي تجاهل حجم المخاطر. وهنا يشير الخبير إلى أن الأزمة السودانية منحت الموقف المصري زخماً إضافياً، إذ باتت إثيوبيا مطالَبة أكثر من أي وقت مضى بالالتزام بقواعد تشغيل واضحة وشفافة للسد. ومن المتوقع أن تتزايد الضغوط الدولية على أديس أبابا في المرحلة المقبلة، مع تحميلها المسؤولية المباشرة عن أي كارثة قد تتجاوز حدود السودان لتطال المنطقة بأكملها.
مصر أكثر استعداداً... وإثيوبيا أمام اختبار حاسم
في ضوء هذه القراءة، يؤكد الخبير الاستراتيجي أن القاهرة نجحت في تحويل الأزمة من تهديد محتمل إلى فرصة لتعزيز موقفها التفاوضي، عبر إظهار المخاطر الإنسانية التي قد تنجم عن السياسات الإثيوبية المنفردة. ويخلص إلى أن مصر اليوم تقف على أرضية أكثر صلابة، مستعدة للتعامل مع أي تطور، بينما يبقى مستقبل المنطقة رهناً بمدى تجاوب إثيوبيا مع الدعوات الدولية للتعاون، قبل أن يتحول "الإنذار الأحمر" السوداني إلى أزمة عابرة للحدود.
الأحداث في السودان كشفت أن قضية سد النهضة لم تعد مجرد ملف إقليمي، بل تحولت إلى معضلة ذات أبعاد إنسانية وأمنية تهم المجتمع الدولي بأسره. وبينما تبقى إثيوبيا أمام اختبار حقيقي لإثبات حسن النوايا، تظهر مصر كدولة أعدّت نفسها مبكراً لمثل هذه اللحظات الحرجة، واضعة أمنها المائي والإقليمي ضمن أولويات استراتيجية مدروسة. ويبقى السؤال معلقاً.. هل تستجيب أديس أبابا لضغوط العالم، أم تظل ماضية في سياساتها الأحادية، حتى وإن كانت على حساب استقرار المنطقة بأكملها؟