قناة صدى البلد البلد سبورت صدى البلد جامعات صدى البلد عقارات Sada Elbalad english
عاجل
english EN
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل
الإشراف العام
إلهام أبو الفتح
رئيس التحرير
طه جبريل

المياه تُغرق السودان وتُخصب أراضي مصر| عندما يتحول فيضان النيل إلى سلاح سياسي.. خبير يعلق

سد النهضة
سد النهضة

لم يعد فيضان النيل حدثًا طبيعيًا يُحتفى به أو يُخشى منه كما كان في الماضي، بل أصبح ملفًا سياسيًا واستراتيجيًا يتقاطع مع أزمة "سد النهضة" الإثيوبي وتعقيدات إدارة الموارد المائية في دول حوض النيل. 

وبينما تؤكد مصر مرارًا أن السلوك الأحادي من إثيوبيا في إدارة السد يُمثل تهديدًا مباشرًا لحياة الملايين في دول المصب، تظهر أصوات علمية وجغرافية مصرية لتذكرنا بأن الفيضان ليس خطرًا مطلقًا، بل قد يكون فرصة إذا أُحسن استغلاله. وبين هذين البعدين، يتأرجح المشهد الراهن بين التهديد والفرصة.

إثيوبيا واللقطة الإعلامية على حساب الأمان المائي

كشف المهندس محمد غانم، المتحدث باسم وزارة الموارد المائية والري، أن الجانب الإثيوبي لم يلتزم بالتخزين التدريجي للمياه كما هو متعارف عليه من يوليو وحتى أكتوبر. بل قام بتخزين كميات ضخمة حتى بداية سبتمبر، على عجل، ليُظهر للعالم أن السد ممتلئ وقت افتتاحه، في "لقطة إعلامية" أرادت بها إثيوبيا أن تُثبت نجاح مشروعها، ولو على حساب استقرار دول المصب.

وأكد غانم أن إثيوبيا، بعد أن امتلأ السد، اضطرت إلى إطلاق كميات هائلة من المياه دفعة واحدة بلغت نحو 2 مليار متر مكعب، وهو تصرف غير مدروس يعكس غياب أي خطة طويلة الأمد لإدارة السد. هذا التدفق المفاجئ لم يكن إلا نتيجة لسوء التخطيط، إذ كان من المفترض أن يجري إطلاق المياه بشكل تدريجي ومنظم بالتوازي مع تشغيل التوربينات لتوليد الكهرباء.

فيضان صناعي يضرب السودان

أوضح غانم أن ما جرى بعد الامتلاء هو أشبه بـ"فيضان صناعي". فبدلًا من أن تتعامل السودان مع الفيضان الطبيعي الذي يبدأ عادة في أغسطس ويبلغ ذروته في سبتمبر، فوجئت بكمية ضخمة من المياه بلغت 485 مليون متر مكعب في يوم واحد، أطلقها الجانب الإثيوبي دون تنسيق أو إنذار. هذا التدفق أحدث ارتباكًا هيدرولوجيًا كبيرًا، تسبب في غرق أجزاء واسعة من الأراضي السودانية، وأربك مواسم الزراعة.

وبحسب غانم، فإن هذه الممارسات الأحادية تُمثل الترجمة العملية لما كانت مصر تحذر منه لسنوات: أن السد الإثيوبي إذا لم يُدار بشكل منسق وشفاف، سيؤدي إلى تهديدات مباشرة لحياة الملايين، ويخلق فيضانات وصدمات مائية غير محسوبة.

وزارة الري.. تهديد مباشر للأمن الإقليمي

أصدرت وزارة الموارد المائية والري المصرية بيانًا شديد اللهجة، اعتبرت فيه أن إدارة إثيوبيا للسد "مخالفة للقانون الدولي" و"تفتقر إلى المسؤولية والشفافية". وأكدت الوزارة أن هذه الممارسات لا تُهدد فقط الأمن المائي، بل تمثل خطرًا مباشرًا على الأرواح في السودان ومصر معًا.

وشدد البيان على أن الادعاءات الإثيوبية المتكررة بعدم الإضرار بدول المصب "زائفة"، وأن ما جرى هذا العام دليل قاطع على أن إدارة السد تخضع لحسابات سياسية وإعلامية أكثر من خضوعها لمعايير فنية أو قواعد مسؤولية دولية.

معادلة النيل.. بين الفيضان الطبيعي والسياسات المصطنعة

لفهم أبعاد الأزمة، أوضح خبراء الري أن نهر النيل يتشكل من ثلاثة روافد رئيسية: النيل الأبيض، النيل الأزرق، ونهر عطبرة. وفيضان النيل الأزرق عادة ما يبدأ في يوليو ويستمر حتى أكتوبر، وتبلغ ذروته في أغسطس. وتشير البيانات هذا العام إلى أن منسوب الفيضان عند هذه المصادر كان أعلى من المتوسط بنسبة 25%، لكنه ظل أقل من فيضان العام الماضي الذي عُد استثنائيًا.

وبالتالي، لو جرى التخزين وفق السياق الطبيعي، لكانت المياه قد توزعت تدريجيًا، ولما شهدت السودان "الصدمة المائية" التي تسببت بها قرارات إثيوبيا الأحادية.

فيضان النيل في الذاكرة المصرية.. بين الخوف والرجاء

عبر التاريخ، كان فيضان النيل بمثابة "امتحان سنوي" للمصريين. فمنذ فجر الحضارة، انتظر الفلاح المصري قدوم الفيضان ليجدد خصوبة الأرض بطميه الغني، بينما عاش الخوف من أن يتجاوز الفيضان حدوده فيُغرق القرى. ومع بناء السد العالي في الستينيات، تغيّرت المعادلة جذريًا.. أصبح الفيضان فرصة أكثر من كونه تهديدًا، إذ وُضع تحت سيطرة مصرية كاملة عبر إدارة دقيقة لمنسوب بحيرة ناصر.
 

الجمعية الجغرافية.. الفيضان فرصة وليس خطرًا

شدّد الدكتور محمد السيديمي، رئيس الجمعية المصرية الجغرافية ، في تصريحات خاصة على أن فيضان النيل لا يُمثل "شرًا مطلقًا"، بل يمكن أن يكون إضافة حقيقية للاقتصاد والزراعة المصرية إذا جرى التعامل معه بعقلانية. وأوضح أن الأراضي المعروفة بـ"طرح النهر"  وهي الأراضي التي تغمرها المياه على جانبي النيل تحتوي على طمي غني بالمعادن يعيد للتربة خصوبتها الطبيعية، مما يتيح فرصًا جديدة للتوسع الزراعي وتحقيق إنتاج وفير.

السد العالي.. حارس مصر الأول

وصف السيديمي مشروع السد العالي بأنه "أعظم مشروع هندسي في القرن العشرين"، مؤكدًا أنه شكّل منذ إنشائه في ستينيات القرن الماضي خط الدفاع الأول لمصر ضد الفيضانات والجفاف. فاليوم يستقبل السد كميات ضخمة من المياه القادمة من السودان وإثيوبيا دون أن يتأثر جسمه أو بنيانه، بفضل متابعة دقيقة من وزارة الموارد المائية والري.

وأشار إلى أن ارتفاع منسوب بحيرة ناصر لا يُمثل تهديدًا بقدر ما يُعبر عن نجاح المشروع في استيعاب كميات هائلة من المياه. وفي حال الزيادة الكبيرة، يتم فتح بوابات السد أو استخدام مفيض توشكى لتخفيف الضغط، وهي إجراءات روتينية تعكس عبقرية التصميم التي وُضعت لتأمين مصر في مختلف الظروف.

فيضان عبر العصور.. سر خصوبة الوادي

يرى السيديمي أن الفيضان كان عبر التاريخ "رحمة" من الطبيعة؛ فهو يُعيد للنيل توازنه، ويجدد خصوبة أراضيه التي اعتمد عليها المصريون منذ آلاف السنين. ففي ظل الاستهلاك المكثف للأسمدة الكيماوية اليوم، تصبح عودة الطمي إلى الأراضي الزراعية هبة طبيعية تُغني التربة وتزيد إنتاجيتها.

المطر هذا العام.. بين المتوسط والزيادة

وعن حالة الأمطار هذا العام، أوضح أن النصف الأول من الموسم شهد معدلات أقل من الطبيعي، بينما ارتفعت في النصف الثاني، وهو ما انعكس على التخزين في بحيرة ناصر الذي يجري بصورة منتظمة. وأكد أن مصر ليست بحاجة حالياً لتفريغ كميات إضافية من المياه في مجرى النهر، إلا إذا استمرت الأمطار الغزيرة لفترات أطول.

أراضي طرح النهر.. ثروة طبيعية ومأزق قانوني

تُعد أراضي طرح النهر من أغنى الترب الزراعية في مصر وأكثرها خصوبة، لكنها في الوقت نفسه موضع جدل مستمر. فهي تُصنف ضمن أملاك الدولة باعتبارها جزءًا من المجرى الفيضي للنيل، وبالتالي لا يحق للمزارعين المطالبة بتعويض عند غمرها بالمياه. ومع ذلك، استمر استغلالها على نطاق واسع، خاصة مع ندرة الفيضانات الكبيرة في العقود الأخيرة. وهنا يبرز التحدي في الموازنة بين الاستفادة من خصوبتها وحماية المزارعين من مخاطر غمرها.

نحو رؤية جديدة للفيضان

من منظور الجمعية الجغرافية، لا ينبغي النظر إلى فيضان النيل باعتباره تهديدًا يُخيف المصريين، بل فرصة طبيعية تُعيد إحياء الأراضي وتغني الزراعة. ومع وجود السد العالي كأداة حماية وتنظيم، يمكن لمصر أن تُعيد صياغة علاقتها بالفيضان، فتستفيد من خيراته وتتفادى أضراره، لتبقى مياه النيل كما كانت عبر العصور.. مصدر حياة وخصب وتجدد.
قصة فيضان النيل اليوم لم تعد محصورة في مياهه الغامرة ولا طميه الغني، بل أصبحت جزءًا من معركة سياسية واستراتيجية أكبر، عنوانها "المياه والأمن". فإثيوبيا تُصر على إدارة السد بشكل أحادي، ما يهدد استقرار السودان ومصر، فيما يرى الخبراء المصريون أن الفيضان، إذا وُضع في إطاره الصحيح، يمكن أن يكون رافعة للتنمية الزراعية. وبين التحدي والفرصة، يظل النيل شريان الحياة لملايين البشر، يفرض على الجميع أن يتعامل معه بعقلانية ومسؤولية، لأن أي خطأ في حساباته قد يُغرق قارة بأكملها في الأزمات.